العدد 420 - الخميس 30 أكتوبر 2003م الموافق 04 رمضان 1424هـ

الواثق... أو «المأمون الصغير»

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في كتاب «الفصل» يرتب ابن حزم اصناف المسلمين ويضع مقالات فئة منهم خارج الملة ويطلق على أصحابها تسمية «الكفار» لانهم «خارجون عن الملة باجماع الأمة» ومنهم أصحاب أحمد بن حابط والفضل الحديثي، فهؤلاء «ليسوا من الاسلام في شيء من أهله» (الفصل، ص 267).

ابن حابط والحديثي من اقرب اصحاب ابراهيم النظام ويقول الشهرستاني عنهما انهما «طالعا كتب الفلسفة ايضا، وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع» (الملل والنحل، الجزء الأول، ص 60). ويذكر ابن حزم عن ابن حابط بدعة قوله ان «للعالم خالقين احدهما قديم وهو الله تعالى والآخر حادث وهو كلمة الله» التي بها خلق العالم. ويؤكد الفخري في كتابه «تلخيص البيان» المسألة نفسها عن اصحاب ابن حابط إذ انفردت فرقته بالقول «للعالم خالقين قديم وحديث. فالقديم هو الله، والخالق الآخر الحديث وهو الكلمة التي يخلق بها» (ص 99).

توفي أحمد بن حابط بعد سنة من وفاة استاذه النظام وانتسب إلى فرقته وقال بالطفرة (التحرك من مكان إلى آخر من دون مرور بالاوسط) ونفى «الجزء الذي لا يتجزأ» واضاف إلى معلمه فكرة لا صلة لها بعلم الكلام وهي قوله بالتناسخ. وموضوع تناسخ الارواح كانت معروفة عند المسلمين الا انها مسألة مرفوضة عندهم بالاجماع. وقول ابن الحابط بها ادت إلى عزلته وتعرضه للنقد من بعض فرق المعتزلة وتكفيره من قبل الائمة والعلماء.

الأمر نفسه تكرر مع صاحبه وتلميذ النظام ايضا الفضل الحديثي (نسبة إلى الحديثة وهي بلدة على الفرات) حين خلط الفلسفة الهندية بالإسلام ومال إلى القول بالتناسخ فاضطرت المعتزلة ايضا إلى نفيه من صفوفها.

مات ابن حابط في سنة 232هـ (846م). وهي السنة التي توفي فيها الواثق بن هارون الرشيد وهو آخر خلفاء العباسيين يموت فيها على مذهب المعتزلة وطرقها الكلامية. فمن بعد الواثق لن تقوم للمعتزلة قائمة في السلطة الا في الفترة الأولى من عهد المتوكل.

ولد الواثق من أم رومية سنة 196هـ (811م) وبويع له في سنة 227هـ (841م) بعد وفاة شقيقه المعتصم. اختلف الواثق قليلا عن المعتصم (صاحب السيف) وقليلا عن المأمون (صاحب القلم) واحتلت شخصيته منطقة وسطى بين المعتصم والمأمون فهو كان يميل إلى القلم (الفكر والثقافة) وإلى السيف (التشدد مع الخصوم والمعارضة). ويشير السيوطي في تاريخه إلى اختلاف شخصية الواثق عن المعتصم فهو رجل أدب وعلم ويقال عنه انه «اعلم الناس بكل شيء» وسمي «المأمون الأصغر» لكثرة علومه ومعارفه (ص 342).

وعلى رغم كثرة علومه عرف عنه قلة درايته بالسياسة وشكوكه الكثيرة بخصومه. وبسبب ذاك النقص اعتمد اسلوب المعتصم في مخاطبة المعارضة والاتكال على الاتراك لحمايته.

اعتمد الواثق كثيرا على الاتراك في عهده وكان أول خليفة يستخلف منهم سلطاناَ. كذلك بالغ كثيرا في تشدده في مسألة «خلق القرآن» واعتمدها سياسة في ظلم المعارضة والخصوم محاولا فرضها كعقيدة واحدة على الناس ايضا. ففي سنة 231 هجرية ارسل الواثق إلى أمير البصرة كتابا يأمره ان يمتحن الائمة والمؤذنين في مسألة «خلق القرآن» ويقول السيوطي في «تاريخ الخلفاء» انه «اتبع اباه في ذلك، ثم رجع في آخر ايامه» (ص 340).

وقبل ان يتراجع الواثق في كلامه قتل الكثير من الابرياء في امتحان الناس ومنهم كان أحد كبار أهل الحديث في زمانه (أحمد بن نصر الخزاعي) إذ احضره من بغداد إلى سامراء مقيدا، وسأله عن القرآن «فقال: ليس بمخلوق». وسأل الواثق «جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله» ما تقولون فيه، فاجابوا «هو حلال الضرب» فضرب عنقه. وبعد ضرب عنقه أمر الواثق «بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها، وصلبت جثته في سامراء، واستمر ذلك ست سنين إلى ان وليَّ المتوكل، فانزله ودفنه» (السيوطي، ص 341).

اسلوب الواثق في التعامل مع خصومه هو مجرد مثال على الظلم الذي لحق بالمخالفين والمعارضين والخصوم في فترة ازدهرت خلالها فرق المعتزلة ومارست تأثيرا استثنائيا على الخلفاء ورجال السلطة في عهد الدولة العباسية. فالسيوطي مثلا يتهم المعتزلة بتحريض رجال الدولة على الائمة والعلماء. فهؤلاء المعتزلة «من حوله» هم الذين شجعوا المأمون والمعتصم والواثق على ارتكاب افعالهم. ويؤكد السيوطي ان هؤلاء هم «جماعة من فقهاء المعتزلة» برئاسة مندوبهم إلى السلطة أحمد بن ابي دؤاد، فهو الذي حرض الواثق وهو الذي «حمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن».

ولا شك في ان حوادث القطع والصلب والحرق التي عرفها عهد الواثق كانت الأخيرة التي تقام ضد الائمة والعلماء والفقهاء. فعنده بلغت المعتزلة قمة السلطة (تسلطها) ومن بعده سيبدأ عصر النزول وصولا إلى الطرد من ديوان الخليفة.

طرد المعتزلة من السلطة لم يحصل بعد رحيل الواثق في العام 232 هجرية... فالمتوكل اخذ وقته في التفكير ودرس الأمر على مختلف وجوهه وفاضل بين السلبيات والحسنات فوجد ان الأفضل هو اتباع أهل السلف في خطاهم وخطواتهم. وهكذا كان. فبعد «المأمون الصغير» خرج المعتزلة من السلطة وتبعثرت قواهم على فرق متناحرة استمرت تلعب تأثيرها الايديولوجي (الثقافي) على مختلف القوى الفكرية والفقهية بعيدا عن السياسة ومراكز القوى في الدولة.

سقطت المعتزلة سياسيا واستمرت ايديولوجيا تقاوم الزمن إلى فترة ليست قصيرة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 420 - الخميس 30 أكتوبر 2003م الموافق 04 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:51 م

      تصحيح

      للتصحيح الواثق بالله هو ابن المعتصم وليس شقيقه كما ورد

اقرأ ايضاً