عندما تريد اميركا توجيه الرسائل، فهي تملك كل الوسائل والأوراق تقريبا. فهي الامبراطوريّة التي يُوصف شعبها، بشعب الوفرة. وقامت كل استراتيجيّاتها، وفي كل حروبها على لوجستيّة لا تنضب. حتى ان انتصاراتها في هذه الحروب، يمكن أن تُعزى إلى هذه اللوجستيّة الضخمة، وليس إلى فكر عسكري متقدّم لا مثيل له. ففي الحرب الثانية، كان الجيش الالماني من اهم وأحدث الجيوش في العالم. فهو ابتكر مفهوم الحرب الخاطفة. وانتصر بواسطته على فرنسا بسرعة فائقة. لكن عند دخول اميركا الحرب، ضُربت النوعيّة الالمانيّة من قبل الوفرة الاميركيّة، وتحوّلت الحرب إلى عضّ اصابع، يربحها من هو اغنى وقادر على الصمود حتى نهاية المطاف. ربحت اميركا الحرب لانها الأغنى.
لاتزال اميركا تعتمد على هذه النعمة، فهي لا تزال قادرة على اعتماد الحلّ الغني، وذلك بدل سلوك طريق الدبلوماسيّة المضنيّ. وهذا ما جعل هنري كيسنجر يطرح السؤال الآتي في كتابه: «هل تحتاج اميركا إلى سياسة خارجيّة»؟ لكن الجديد في السلوك الاميركي، هو في الاعتماد الكلّي على بُعد القوّة لتنفيذ وقيادة السياسة الخارجيّة. فوزارة الخارجيّة الاميركيّة حاليّا، هي الاضعف بين الوزارات. وكولن باول، هو من الاشخاص المهمّشين تقريبا. ومن يدير اللعبة حاليّا، هو «البنتاغون»، عبر دونالد رامسفيلد سابقا، والآن عبر مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، وبإشراف من الرئيس جورج بوش. وقد يذكّرنا هذا الوضع، بما كانت عليه إدارة الرئيس الاميركي الراحل ليندون جونسون، عندما كانت تدير الحرب الفيتناميّة عن قرب. فالرئيس جونسون آنذاك، كان يختار الأهداف العسكريّة للقوّات الجوّية الاميركية، إنها ميكرو - إدارة للحرب.
باختصار، لم يعد البُعد العسكري في السياسة الاميركيّة آخر وسيلة تستعمل. لا بل تصدّر وتقدّم هذا البُعد على ما عداه من أبعاد. وقد يعود سبب هذا الأمر، إلى الخلل في موازين القوى العالميّة لصالح اميركا بصورة كاملة. على كل، علّمنا التاريخ ان القويّ لا يفاوض. وقد قال الامير فخر الدين المعني الثاني لشعبه مرّة: «إن المفاوضة بين فريقين غير متساويين من حيث القوّة، ضرب من الاستجداء».
أميركا قويّة، وقويّة جدّا. لذلك هي لا تفاوض. لكن هذا الامر، لا يعني مطلقا ان مشيئتها ستنفّذ.
عندما تعثّرت اميركا في العراق بعد نصرها السريع على النظام السابق. راحت الولايات المتحّدة تضرب يمينا ويسارا. فهي لم تأتِ إلى المنطقة بكل قوّتها، فقط لتبقى في العراق وتغرق فيه. لا بل، كان ولا يزال العراق يُشكّل حملة بسيطة واحدة، في حرب طويلة كانت اميركا أعدّت لها. ونحن، لم نشهد منها حتى الآن إلاّ الفصل الاوّل. لذلك راحت اميركا بعد التعثّر، تحاول حماية نصرها العسكري. وراحت ايضا، تحاول وبسرعة تحويل نصرها العسكري، إلى نصر سياسي، تقدّمه إلى الشعب الاميركي، وإلى العالم على حدّ السواء. من هنا، يمكن لنا وبسهولة معرفة سبب الضغوط الاميركيّة الجبّارة، على كل من سورية وإيران. تريد اميركا تغيير وجه المنطقة حتى ادنى مستوى، وهي مصمّمة على ذلك. لكن الغرق في الوحول العراقيّة، قد يعني الامور الآتية:
- ستعكس اميركا صورة ضعف خطيرة جدّا، وهي التي حاولت تغييرها بعد 11 سبتمبر/ايلول. فالعقل الاميركي المسئول الحالي، يعتقد ان هجمات 11 سبتمبر، وقعت، فقط لان اميركا تصرّفت ضد التهديدات لأمنها القومي بطريقة جعلت اعداءها يرونها ضعيفة. فمن الخروج من لبنان العام 1984، إلى تفجير مركز التجارة الدولي العام 1993، إلى تفجير البارجة «كول» في البحر اليمني، إلى تفجير السفارات في افريقيا. تتوجّت هذه الحوادث بالكارثة الأكبر: 11 سبتمبر.
- إن الغرق في العراق، سيجعل اميركا تركّز اهتمامها على نقطة وموقع واحد من استراتيجيّتها الكبرى، لتخسر امكان رسم صورة النظام العالمي بحسب ما تريده.
- كذلك الامر، قد يعني التعثّر في العراق ابتعاد حلفاء اميركا عنها، لانها غير قادرة على تأمين الحماية لهم. وقد يشجّع هذا الامر، بعض الدول الكبرى على التقدّم لتحدّي اميركا في مناطق متعددّة من العالم. قد تكون الصين، فيما خصّ تايوان المثل الأهم في هذا الاطار.
- وأخيرا وليس آخرا، قد يعني الغرق في العراق تحويل اهم منطقة نفطية في العالم، إلى بؤرة ملتهبة تسودها الحروب، ويسيطر عليها الارهاب والكثير من «اسلحة الدمار الشامل».
من هنا نرى الالحاح الاميركي على استصدار قرار عن مجلس الأمن لشرعنة وضعها في العراق. كذلك الامر، يندرج القرار التركي في الدخول إلى العراق، وكأنه إنقاذ للمشروع الاميركي. فالدخول التركي، قد يحرّر اميركا من الوحول، لتنصرف بعدها إلى المشروع الأكبر. إذا هناك بُعدان مهمّان تعمل عليهما اميركا لتحرّر نفسها من الوحول العراقيّة. الاوّل، البُعد المتمثّل في القرار الذي صدر عن الامم المتحدّة. اما الثاني، فهو البُعد المتمثّل في المساهمة التركيّة العسكريّة. لكن هذا التطوّر على المسارين، الدولي والتركي. قد يلزمنا بضرورة متابعة التطوّرات، لنرى كيف، متى، وبماذا ستدفع أميركا المكافآت للمساهمين في مشروعها. ومن سيكون الخاسر الاكبر، ومن جيب من ستدفع الاثمان.
لكن المسيرة لوصول اميركا إلى هذا الحدّ أو الانجاز، إذا صحّ التعبير، مرّت بفترة عرض عضلات بطريقة مباشرة، او عبر حلفائها. تمثّلت مسرحيّة عرض العضلات في إرسال رسائل قوّة تقليديّة، ورسائل قوّة غير تقليديّة. كان المقصود منها، تغيير سلوك كل من سورية وإيران تجاه المشروع الاميركي في المنطقة. ترافقت رسائل القوّة مع عدّة رسائل سياسيّة أميركيّة، كذلك الامر بتسريبات عن التعاون الاميركي الاسرائيلي الاستراتيجي. هل أدّت هذه الرسائل مفعولها؟ بالاتجاه السوري، كان الجواب الرسمي الدائم هو في المحافظة على المصالح القوميّة السوريّة والعربيّة.
وان سورية ستردّ كل عدوان عليها ومهما كان حجمه. كذلك الأمر، انتقد الرئيس بشار الاسد المتشدّدين في الادارة الاميركيّة. لكن في المقابل، صوّتت سورية مع مشروع القرار الاميركي في مجلس الأمن. وهي فعلت ذلك لان كل الاوروبيين المعارضين، وهم من القوى العظمى صوّتوا لصالح المشروع الاميركي. ولأن القرار الصادر عن مجلس الأمن، وعلى رغم أنه انتصار اميركي، لم يُعطِ اميركا شيئا جديدا. فالقوى المتعدّدة الجنسيّة لن تزيد كما هو مرغوب. ولا احد من القوى العالميّة، يرغب فعلا في إرسال جنوده للقتال في مشروع بعيد عنه. لذلك وعت اميركا هذا الامر، وراحت تركّز على الدول المحيطة مباشرة بالعراق، والتي لها مصالح، ومستعدّة للقتال. من هنا القرار التركي، حتى لو سبق قرار الذهاب، شرعيّته من مجلس الأمن.
هذا في الشق الأمني - العسكري، اما في الشق المالي، فإن الامر صعب جدّا، ويبدو ان اميركا والعراقيين سيدفعون ثمن إعادة تركيب العراق. وفعلا هذا ما اثبته «مؤتمر مدريد» الاخير الذي عقد لجمع الاموال لاعادة بناء العراق. إذا، لماذا ستمانع سورية القرار الاميركي، طالما هو لا يزيد شيئا مهما على المكاسب الاميركيّة؟ ولماذا ستقف الآن في وجه العاصفة وحيدة، وخصوصا ان الرسائل تصلها في كل الأبعاد؟ أما على المسار الايراني، فإن المكسب الاميركي تمثّل في موافقة إيران على توقيع البروتوكول الاضافي لمعاهدة الحدّ من انتشار اسلحة الدمار الشامل، والمتمثّل في التفتيشات المفاجئة واينما تكن.
تمثّلت الرسائل التقليديّة في الاعتداء على سورية، وتسريب خبر دخول مقاتلين من أراضيها إلى العراق، وقانون محاسبتها في الكونغرس.
لكن الامر الاخطر، تمثّل في الرسائل غير التقليديّة. والمقصود هنا البُعد النووي. ويبدو، أن هناك تحوّلا جذريّا في السلوك الاميركي تجاه موقفها الاستراتيجي من حليفتها «إسرائيل». فللمرة الأولى يعلن كل شيء علنا وعلى الملأ، أن اميركا تتعاون مع «إسرائيل» لضرب العرب وخصوصا سورية وإيران. فبعد منع اميركا من التدخّل في حربي الخليج، الاولى والثانية، وذلك للمحافظة على الدعم العربي. نرى الرئيس بوش يطلب الآن من «إسرائيل» مساعدته في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية، وذلك في الشق العسكري المباشر، وليس في الشق الاستعلامي مثلا، والذي هو قائم كما نعتقد ولم يتوقّف. وهذا تغيّر جذري، يعكس فقط الوضع الذي وصل إليه العالم العربي. وقد يختلف وضع «إسرائيل» عن الوضع التركي، فتركيّا كانت ولاتزال تتعاون عسكريّا مع اميركا على المسرح العراقي.
ماذا عن الرسائل غير التقليديّة؟
نشرت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» تقريرا طويلا ومفصّلا يتعلّق بقُدرات «إسرائيل» النوويّة. فالتقرير ليس بريئا بالطبع، حتى ولو نفى مضمونه بعض المسئولين الاسرائيليّين. فهو يذكّر العرب، وخصوصا المعارضين ان «إسرائيل» دولة قادرة على التدمير الشامل. والجديد في الامر، هو ما ذكرناه سالفا، عن الاعلان الرسمي الاميركي لتبني خدمات «إسرائيل» العسكريّة في هذه المرحلة في منطقة «الشرق الاوسط». وهذا الامر، ليس جديدا على الادارة الاميركيّة، فهي بعد 11 سبتمبر قرّرت استئناف التجارب النوويّة على نوع جديد من القنابل. كما لوّحت عدّة مرّات بأنها عازمة على استعمال النووي التكتي إذا ما لزم الامر. كيف عُرضت الصورة النوويّة الاسرائيليّة؟
- بيّنت الصحيفة أن «إسرائيل» قادرة على استعمال السلاح النووي في ثلاثة أبعاد، هي: البحر، الجو والبرّ. من الجو عبر طائرات اف - 16 من صنع اميركي. من البرّ عبر الصواريخ البالستيّة التي يصل مداها إلى قلب روسيا. أما من البحر، فهي قادرة على الضربة النوويّة عبر الغواصات التي تبرعت بها المانيا بناء على طلب اميركي.
- والمقصود هنا، أن «إسرائيل» قادرة على القيام بضربة ثانية لمن يعتدي عليها. فهي إذا ما دُمّر بُعدا الجو والبرّ، لديها دائما غوّاصة واحدة على الأقلّ، عملانيّة موجودة في المياه القريبة من اهدافها قادرة على الردّ.
- قد تمتدّ هذه الأهداف، من الشاطىء اللبناني، وحتى الخليج العربي، مرورا بالمغرب العربي كلّه، وخصوصا ليبيا بعد ان هاجمها إرييل شارون حديثا. هذا مع التذكير، بأن خليج العقبة والبحر الأحمر يشكّلان المدخل الاسرائيلي إلى الخليج العربي، وهي ليست بحاجة إلى قناة السويس. هذا مع التذكير ايضا، بأن اميركا تسيطر هناك على البحار والاجواء، كما الأرض.
إذا الرسائل النوويّة، إلى جانب الرسائل التقليديّة. تدلّ حتما على وصول اميركا إلى وضع محرج في المنطقة. لكن السؤال يبقى كالآتي: «إذا لم ترضخ الدول المقصودة للمطالب الاميركيّة، فهل سنصل إلى النووي، وهل سننتقل إلى مستوى من العنف أكثر بكثير مما عرفناه»؟
بحسب المنطق الذي يقوم على التصعيد والتصعيد المضاد، قد يكون الجواب بنعم. فالمنطقة مقبلة على وضع خطير جدّا. والمستفيد الأكبر من هذه المعادلة، هو بالطبع «إسرائيل». فهي حاليّا، وضعت نفسها تجاه اميركا على انها حاجة استراتيجيّة ملحّة، وملحّة جدّا. وذلك من دون ان ترتبط معها بمعاهدة استراتيجيّة مكتوبة. فـ «إسرائيل» اعتبرت ان مثل هذا النوع من المعاهدات، سيحدّ من حريّة حركتها في اي عمل تقدم عليه، وتعتبره حيويّا لأمنها القومي. وهي كما يقال بالعاميّة، «امسكت برقبة اميركا، وفي مقتلها». وبما انها حاجة استراتيجيّة ملحّة، فهي ستقدّم خدماتها، لكنها ستحقّق اهدافها في الوقت نفسه، وذلك ضمن منظومة التعاون المشترك. وهي حتما ستقبض الأثمان الكبيرة. وهي تعرف انه لا يمكن لاميركا، ان تتراجع عن مشروعها الكبير.
لماذا تتمتّع «إسرائيل» بهذه الحريّة من الحركة الاستراتيجيّة؟
تعتبر «إسرائيل» ان المخاطر على امنها القومي تأتي من ثلاثة ابعاد، هي: «السكين، الدبابة والصاروخ». المقصود بالسكين، هو ما تسمّيه بالارهاب، او عمليات المقاومة. الدبابة، هي ما تمثّله الجيوش العربيّة التقليديّة. اما الصاروخ، فهو الذي عايشته خلال حرب الخليج الاولى. تسعى «إسرائيل» لضرب المخاطر الثلاثة معا، وذلك بمساعدة اميركا. مع اميركا، تضرب حاليا حقوق الشعب الفلسطيني، تحت شعار محاربة الارهاب. وهي تعرف ان الدول العربيّة (ما تمثّله الدبابة)، لا تريد ان تقاتلها. فالراغب في محاربتها، هو غير قادر.
والقادر، يبدو انه غير راغب في ذلك، كمصر مثلا. اما الصواريخ، فهي في صدد إقامة مظلّة مضادة للصواريخ البالستيّة، وأيضا بمساعدة اميركا. فهل سنرى في المستقبل مظلّة إقليميّة، مضادة للصواريخ تأوي تحتها كلا من، تركيّا، «إسرائيل» والقوات الاميركيّة الموجودة في المنطقة، ومن رغب من العرب بعد تقديم صلوات الطاعة؟
ماذا يمكن للعرب ان يفعلوا؟
لا بد لايّة استراتيجيّة عربيّة فاعلة من ان تقوم على ابعاد ثلاثة، هي: البعد السياسي، العسكري ومن ثمّ الاقتصادي. فإذا كان العرب في الوقت الحالي عاجزين عن القتال، فهل فقدوا الارادة السياسيّة؟ وإذا شعر العرب ان القتال عن بُعد غير ممكن مع عدوّ متقدّم جدّا تكنولوجيّا، فهل نسوا مبدأ المحافظة على التماس مع العدو؟ وإذا نسوا مبدأ المحافظة على التماس مع العدو، فهل الوضع الاميركي العسكري في العراق يذكّرهم بهذا المبدأ؟ وإذا نسوا كل هذه الامور، فهل سمعوا خطاب الرئيس الماليزي مهاتير محمّد في القمّة الاسلاميّة عندما نصح بضرورة التفكير للحفاظ على الذات؟ لكن التفكير، قد يعيدنا إلى البُعد الانساني، وضرورة تنميته في عالمنا العربي. فهل سيُحقّق الزعماء العرب التماس مع شعوبهم، بعد أن فقدوه مع العدو الأكبر؟
العدد 419 - الأربعاء 29 أكتوبر 2003م الموافق 03 رمضان 1424هـ