العدد 419 - الأربعاء 29 أكتوبر 2003م الموافق 03 رمضان 1424هـ

هيبة المعدن

للسقف أبوّته، ولحائط الليل ملاذه الأخير، ولدجل قارئ الكف نكهته المؤجلة، بلا مهل نمعن في طلب المزيد من القلب... تقتلنا الانتظارات الساذجة أمام محطات لا يقصدها أحد، وأمام ابواب بلا روائح أو حنين في الداخل، يقتلنا الجار الذي يؤجل الوردة ليلوّح بالسكين وإرث الضغينة، يقتلنا الحمام في نكرانه لجميل الأبراج التي نصبناها على حساب قوت أبنائنا. لغناء أم في يأس عودة ابنها الضال... لياسمينة بعد الأوان... لعشاء أخير ووصايا أخيرة... لعناق ورائحة وداع رحيم.

نحب النهايات ولكننا لا نحب الخريف من الوقت... نحب اكتظاظ الفصول ولكننا نحب الفسحة من الربيع... نحب الليل الهادئ الملئ بالهمس والشعر والأنفاس ولكننا نكره النهارات المليئة بالمقاصل والمحطات الأخيرة والهش من المشاعر... نحب فكرة المدى المتورط بالانحناء.

أية ريح ستحملنا لاستدراج الورد والرائحة الأخيرة؟ أي هديل لن يلعثم نهارات الحمام؟ أي غصن لن يحط عليه سوى تعب السرب؟ اية خيول لن نمعن في الرهان على مضاميرها؟ أية كتابات ستكون بمنأى عن الغابر من القلب؟ وأية نوارس سنسلخها عن الملح ورفاهية الساحل؟.

للشرفات نشيدها المطل على المقبل من الأحبة... وللحرس هواجسهم المقيمة كيأس لن يزول... وللسهل سماحته في ظل رعايا التيه... وللبراري درس رجولة مميتة... وللذئاب إرث الجب والغدر ويوسف الذي لن يكون الأخير ما قامت الحياة!

تحيلني الروح الى مروجها الملغمة بالقناصة المبثوثين في شرفة الأفق... تحيلني الى نوايا بلون القطران وأول الحزن... تحيلني الى أضغاث طمأنينة لن تجيء... تحيلني الى مدى عاصف وأرض تمور بمواهب النسف وماء يستحيل الى مشانق ومقاصل لا ترى!... تحيلني غزالة الروح الى قوائم من الضحايا الذين ذهبوا في مهب النسيان على موائد مزدانة بالتوابل والنساء الوثيرات وموسيقى تبعث على الخدر والبطالة... تحيلني الى جغرافيا متورطة بالجانب الدموي من القنص... بالأسود من النسيان والمكفهر من الروح والرمادي من الضمير... تحيلني الى اقتناص أول الحرية وأول المدى وفاتحة الأفق!.

يجيء صوتها مزيجا من الهال والسكّر وصبح الزعفران... يجيء مبحوحا كأنه لثغة طفل استيقظ للتو... تجيء محمّلة بوجع القصب واعتراف الناي بحزن غابر... ونحول ربابة في القصي من المكان تجيء كأنها بياض المناديل في تلويح أمام موانئ الفقد!

من لي سواك في هذه المفازة المكتظة برعب مقيم؟ من لي في هذا المدى الملغم بالوشايات والرصد والكلاب وأجهزة التنصت؟ من لي سواك في عالم يدشن حتف أبنائه؟ من لي سواك في قيامة ابتدعتها تكنولوجيا الرعب وأباطرة النسف؟ من لي سواك في غيابة لا عابر سيوقظ نهاياتها؟... من لي سواك في عزلة هي أشبه باحتضار وصلاة خوف وتلفت يعصف بالقلب وصبح الطمأنينات.

للشرائع الممكنة... للحديد الرحيم بتجاوزات القلب... للطبيعة في مدائحها المشاعة... لانكسار القش أمام هيبة المعدن... للجرح المقيم في صاحبه... للنخيل المصاب بوحشة الاسمنت... لأرملة تتفقد الهمس الأخير... لبلاغة الورد أمام وقاحة النفايات والردم... لياسمينة محاطة بالمخبرين وشهوة الاقتحام ... لحصى ينطق بازدحام العابرين الى أسرّتهم... لممر أخير في لقاء أخير... أكتب دونما وجل : الكتابة دفاع أخير عن الأشياء... ومصد أخير عن هوس وشهوة الانتهاك التي يرتكبها المنتسبون الى البشر!!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً