العدد 418 - الثلثاء 28 أكتوبر 2003م الموافق 02 رمضان 1424هـ

هنيئا لنساء المغرب ووقفة للتأمل

إنجاز مدونة جديدة للأحوال الشخصية

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

اقتحمت المغرب العقبة، وتم التوصل إلى إنجاز مدونة جديدة للأحول الشخصية ستسهم قطعا في إحداث نقلة نوعية لأوضاع المرأة المغربية، والارتقاء بها من حال مزرية دامت قرونا إلى حال جديدة تتلاءم في جوانب عدة منها مع ما اكتسبته النساء المغربيات من وعي وحضور داخل الأسرة والمجتمع.وبتحقيق هذا الإنجاز التاريخي تكون كل الأطراف من مجتمع ونخبة وسلطة توافقت على قطع خطوة ثانية بعد تنظيم الانتخابات التشريعية والبلدية نحو حداثة متوازنة ومتدرجة.

فالنهوض بأوضاع النساء وثيق الارتباط بالنهوض الديمقراطي العام. إذ لا جدوى من مشاركة النساء في الحياة السياسية إذا كن مسلوبات الحقوق والإرادة، وجاهلات بدورهن ووزنهن.

المغرب بلاد التناقضات

المغرب هي من البلدان العربية والإسلامية التي تتعايش داخلها التناقضات، وتتداخل الأزمنة والثقافات بشكل ساحر أحيانا ومستفز أحيانا أخرى. وعندما تختلط بمثقفيها تشعر في الغالب بحرصهم على التمكن من المجالات التي يتخصصون فيها.لهذا كانت النخبة المغربية مرشحة لتحتل مكانة متميزة على الصعيد العربي في مجالات النشر والترجمة والفكر الأكاديمي وبلورة المشروعات الثقافية.لكن العيب الذي كان ولا يزال يشوه هذه الصورة هو الوضعية القانونية والاجتماعية للنساء المغربيات.فهن على رغم المكانة التي احتلتها الكثيرات منهن في التعليم والإدارة وسوق العمل، إلا أنهن بقين يعانين من حيف قانوني واجتماعي رهيب.فليس سرا أن بعض السواح العرب تشدهم نحو هذا البلد الجميل فكرة رائجة عن سهولة التعرف على بائعات الهوى.وهي فعلا سوق رائجة رغم محاولات الحد منها وتقليصها. ومن الخطأ التعميم وتصور أن المرأة المغربية في متناول اليد.

تراكمات نضالية

بدأت الدعوة إلى إصلاح أوضاع النساء منذ فترة مبكرة.طالبت بذلك الأحزاب السياسية والحركة النسوية. لكن كانت السلطة مترددة بحجة عدم نضج المجتمع المغربي المعروف بنزعته المحافظة.ومع تولي الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي عبدالرحمان اليوسفي رئاسة الحكومة في آخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ثم اعتلاء الملك محمد السادس العرش بعد وفاة والده، اتسعت رقعة الحريات ونجح التيار التقدمي العلماني في تصعيد المسألة النسائية.عندها أصبحت قضايا المرأة حبيسة الصراعات السياسية والأيديولوجية.

لكن ما أن تم الكشف عن مشروع حكومي لتعديل المدونة حتى انفجر جدل واسع في البلاد، واحتد الصراع بين المدافعين عن المشروع وبين الإسلاميين وحلفائهم الذين رأوا في التعديلات المقترحة «تجاوزا لكل الخطوط الحمر»، وانتقل هذا التجاذب إلى استعراض القوة في مسيرات ضخمة . وعندما شعر الملك بأن المسألة تجاوزت دائرة التكتيك السياسي والخلاف الفكري، وأصبحت قضية رأي عام، وأنه لم يعد بالإمكان تأجيلها أو تمييعها، قرر أن يتولى الأمر بنفسه، وأعلن عن تشكيل لجنة لإعداد مشروع بديل.

ثلاث ميزات

باستعراض محتوى التعديل والصيغ التي اعتمدت للتوصل إلى هذه الوفاق، يمكن التوقف عند ثلاث خاصيات ميزت هذه العملية:

استجابة لضغط قاعدي

ما حصل بتونس في مطلع الاستقلال صعب أن يتكرر في بلاد إسلامية أخرى.يومها قرر الزعيم الحبيب بورقيبة أن يبادر ويغير «قانون الأحول الشخصية» من دون الاحتياج لوجود حركة اجتماعية ضاغطة. كانت الشرعية النضالية التي اكتسبها واللحظة التاريخية المواتية عوامل مساعدة جعلته قادرا على أن يمرر اختياراته بشكل فوقي وحاسم. أما في المغرب فقد انطلقت ديناميكية الضغط في اتجاه التغيير الاجتماعي من تحت وليس من فوق. فكما تمت الإشارة من قبل حدث حراك وصراع، شاركت في تغذيته الجمعيات النسوية والأحزاب ونوى الحركات الاجتماعية. فالملك لم يتدخل إلا بعد أن انشقت النخبة على نفسها وتجاذبتها رؤيتان متباعدتان في الأرضية والمنهجية.ولم يبق هذا الصراع حبيس النوادي والصالونات بل انتقل إلى وسائل الإعلام ونزل إلى الجمهور العريض ولامس المخزون الثقافي والاجتماعي. عندها بدا واضحا أن المجتمع أصبح مهيئا إلى حد ما لقبول تغيير تشرف عليه الدولة وتدير تداعياته القوى السياسية والاجتماعية والثقافية.

لا يعني ذلك أن قوى الجذب إلى الخلف توقفت عن محاولاتها، وأن تنفيذ الأحكام الجديدة لن يكون خاليا من الصعوبات والعراقيل. ولكن المؤكد أنه لن تكون هناك مقاومة منظمة وجماعية. فالمرحلة السابقة بلغت درجة من السوء، ولم يعد هناك في الساحة طرف مستعد للوقوف صراحة في وجه الإصلاح.

تغليب منهج التشريك على منهج الإقصاء

تجاوزت المغرب محنة «تفجيرات الدار البيضاء» بأقل ما يمكن من الخسائر، ولم يحصل ما كان يتمناه ويدفع إليه بعض الاستئصاليين.لقد وعى الملك وجزء مهم من النخبة أن مصلحة البلاد ليست في خلط الأوراق وحرق المراحل ووضع كل الإسلاميين في سلة واحدة، وإدخال المغرب في دوامة العنف والتطرف الواسع.كما أسهم حزب «العدالة والتنمية» من جهته في إطفاء الفتيل، عندما انضبط خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، وانتهج أسلوب تهدئة الخواطر والتلويح بتهديد موازين القوى.

وبفضل عقلية التشريك وإدماج كل الفرقاء في عملية التغيير، أمكن التوصل إلى محصلة وفاقية اعتبرها الجميع مكسبا وإنجازا جماعيا.وبذلك يتبين الاختلاف في النتيجة بين سياسة الإقصاء وسياسة الإدماج. الأولى تضع مزيدا من العراقيل أمام محاولات النهوض والتغيير، بينما تمكن الثانية من تجاوز العقبات وتوريط الجميع في المكاسب وتحمل المسئولية.

الثقافة في خدمة القانون

تميزت المحاولة المغربية باستثمار ما يتيحه المخزون الثقافي من مجال لتطويع البنية القانونية الموروثة وحل كثير من الإشكاليات. وعلى رغم أن عملية الغوص لم تستنفد كل الإمكانات إذ يبقى الإسلام قادرا على أن يعطي تشريعات أفضل ويضمن حقوقا أوسع للنساء في المغرب وفي غيرها من البلاد.لقد حالت دون ذلك عوامل عدة، قد يكون من بينها ثقل الموروث الفقهي وتوقف ديناميكية تجديد الفكر الإسلامي منذ اختفاء علال الفاسي، والطابع المحافظ لمؤسسات ما اصطلح على تسميته بالإسلام الرسمي. يضاف إلى ذلك ما يحدثه عادة التطرف العلماني من ردود فعل يسرف أصحابها في المحافظة والخوف من استنفاد الإمكانات الواسعة التي يتضمنها النص وتوفرها آليات الاجتهاد.

لكن مع ذلك فإن خلق علاقة جدلية بين القانون والفكر وبين التشريع والثقافة من شأنه أن يحقق حداثة تكون أقدر على مواجهة الهزات، وتجنب الشعوب حال التذبذب والتمزق الثقافي

العدد 418 - الثلثاء 28 أكتوبر 2003م الموافق 02 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً