قرار «إسرائيل» بتوسيع جدار الفصل العنصري ومده على طول غور الأردن يؤكد من جديد استمرار عقدة الخوف التاريخية. فالمسألة ليست أمنية فقط والجدار الذي اتخذ حزب العمل قرار بنائه وباشر الليكود تنفيذه يدل على أن الفكرة إسرائيلية ولا تقتصر على نزعة عنصرية - استعلائية تتمثل في استراتيجية ارييل شارون المعارضة للسلم والانفتاح. فالجدار يعكس هواجس أمنية أو مخاوف من تعرض «إسرائيل» لهجمات محتملة أو مفترضة من الجانبين الفلسطيني أو الأردني... إلا أنه وهذا هو الأهم يعبر عن عقدة تاريخية ممتدة لم تنكسر على رغم انتقال المجموعات اليهودية من أحياء مدينية في أوروبا إلى «دولة مستقلة» في فلسطين ودائرة «الشرق الأوسط». فالجدار هو الفاصل النفسي بين اليهودي واللايهودي وهذه مشكلة تاريخية انتقلت كما يبدو من المهاجرين (المهجرين) من دول أوروبا إلى فلسطين التي تقول الأسطورة إنها «أرض الميعاد».
في القرن التاسع عشر كتب كارل ماركس عن «المسألة اليهودية» معتبرا أن مشكلة اليهودي ليست في دينه وانما في العلاقات الاقتصادية التي يعيشها وفي الدور الذي يقوم به في المنظومة الرأسمالية. ورأى ماركس أن تغيير تلك العلاقات سيؤدي بالضرورة إلى تبديل الأدوار والغاء وظيفة اليهودي. فالمشكلة في الاقتصاد وليست في الدين.
وفي مطلع القرن العشرين كتب ابراهام ليون عن «المفهوم المادي للمسألة اليهودية» وطور نظرية ماركس عن الموقع الاقتصادي لليهودي فاستحدث فكرة جديدة أطلق عليها الطبقة - الشعب معتبرا أن اليهود هم كتلة (شعب) تقوم بوظيفة طبقة. وأرخ ليون تاريخ الاضطهاد والملاحقة من الغرب الأوروبي إلى الشرق وثم من الشرق إلى الغرب محاولا شرح فكرة الغيتو (الحي اليهودي المغلق) انطلاقا من معادلة الطبقة - الشعب.
وبحسب ليون ان اليهود هم «شعب» يمارسون وظيفة «طبقة» واحدة وذلك لتفسير سبب تماسكهم الأيديولوجي وعدم قدرتهم على التكيف أو الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها. وفي النصف الثاني من القرن العشرين كتب اسحق دويتشر عن «اليهودي اللايهودي» مستفيدا من فكرة ماركس عن المسألة والتطوير الذي أحدثه ليون عليها لشرح نظرية الانغلاق والتقوقع انطلاقا من قراءة الوظائف الاقتصادية - الأيديولوجية لمسألة الغيتو والخوف من الآخر.
أكد الثلاثة أن المسألة اليهودية موضوع تاريخي له صلة بالاقتصاد والاجتماع وبالظروف التي تمر بها البلدان الأوروبية... وحين تتغير تلك العلاقات فإن أسوار (جدران) الغيتو ستنهار تلقائيا لأنه في تلك الحالة الجديدة ستلغى الوظائف الخاصة (الدور - الطبقة) للكتل اليهودية.
لا شك في أن الثلاثي ماركس - ليون - دويتشر (يهود اللايهود) حاول تفسير المسألة من خارج إطار الدين. فالمسألة برأيهم تاريخية اقتصادية لها صلة بالنظام الأوروبي آنذاك (شبه إقطاعي - شبه رأسمالي) وبالتحولات الجارية على مستوى الوظائف وأدوار التكتلات المدينية في البلدان الأوروبية. والدين برأيهم مجرد غطاء (غلاف خارجي) يبرر تلك الوضعية القائمة ولا علاقة له بتأسيسها. ولذلك اعتقد الثلاثي المذكور أن تغيير ظروف اليهودي سيؤدي إلى تبديل وظائفه ودوره وبالتالي سيساعد على تعديل طريقته في الحياة وستتأسس عادات جديدة منسجمة مع تلك التي بدأت أوروبا تشهدها في عصرها الجديد.
كانت نظريات الثلاثي ردا على آراء أخرى تقول بها مدارس عنصرية أوروبية تفسر سبب الانغلاق (الغيتو) بأنه يعود إلى دين اليهود وأن الدين هو الذي أسس تلك الوظائف الاقتصادية (التجارة والربا) لأنه يشجع في جوهره على رفض الاندماج والانعزال عن المحيط. كذلك كانت ردا على مجموعات صهيونية شجعت على العزلة (السكن في الغيتو) للمحافظة على الدين ورفض الاندماج. وحين تأسست الحركة الصهيونية باندماج أكثر من ألف منظمة في هيئة واحدة يرأسها تيودور هرتزل بدأت فكرة العودة إلى «أرض الميعاد» تدق أبواب أوروبا وأخذت المنظمات الصهيونية تغذي فكرة رفض الاندماج حفاظا على نقاء «الشعب المختار».
كان هرتزل يركز في جولاته واتصالاته على أن تأسيس «دولة إسرائيل» هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية. وبتأسيس الدولة تنحل العقدة التاريخية وينفك ذاك الرباط السحري بين الدين والغيتو (العزلة).
الآن وبعد مرور أكثر من 55 سنة على تأسيس دولة هرتزل لاتزال عقدة الغيتو تراوح مكانها وبدأ الجدار (الأمني - العنصري) يفصل بين اليهودي واللايهودي... كما كان الأمر في أوروبا في عصور الظلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 416 - الأحد 26 أكتوبر 2003م الموافق 29 شعبان 1424هـ