مع إطلالة هذه الأيام من كل عام، يقف العالم من أدناه إلى أقصاه وقفة إكبار وإجلال ليحيي في أبي الشهداء روح البطولة والأريحية والمثل الأعلى الذي ضربه في الفداء والتضحية، حين وقف على ساحة الطف رافعا روحه على كفيه، جاعلا من نفسه وذويه قرابين على مذبح الحرية، مناديا بصوت العدالة الإنسانية بحقوق الإنسان الطبيعية في الحياة الحرة الكريمة، فعاش خالدا في قلوب الإنسانية وضمير البشرية طيلة خمسة عشر قرنا من الزمان، وظل دمه الطاهر الذي سطر به تاريخه المشرق على جبين الدهر يروي لنا سر خلوده.
وعلى الأفق من دماء الشهيدين
على ونجله شاهدان
فهما في أوائل الليل فجران
وفي أمسياته شفقان
ثبتا في قميصه ليجيئا الحشر مستعديا إلى الرحمن.
حتى ليخطئ من يظن أن الحسين (ع) مات أو قتل يوم الطف بل ولد كما يولد الأبطال حين موتهم وحين استشهادهم مصداقا لقول الله تعالى: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله مواتا بل أحياء عند بهم يرزقون...»
وقال تعالى: «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون».
كذب الموت فالحسين مخلد
كلما مرت العصور تجدد
شهيد العلى ما أنت ميت وإنما
يموت الذي يبلى وليس له ذكر
وما دمك المسفوح إلا قـيامة
له كل عام يوم عاشورة حشر
ومادمك المسفـوح إلارسالة
مخلدة لم يخلُ من عصرها ذكر
فدم الحسين عليه السلام لم ولن يجف، وسيظل سيلا يروي زهرة الحرية ويوقد شعلتها لتكون نورا ونارا لكل الأحرار والشرفاء في الدنيا، ليعلم الإنسان كيف يكون مظلوما فينتصر.
وستظل صرخاته المدوِّية تجلجل في أعماق الإنسانية لتوقضها من سباتها لتنتفض على أعدائها الذين نحروا كرامتها على أعتاب دنيا المطامع والأهواء، واحتسوا دماءها في جماجم أبنائها الشرفاء.
وستبقى تلك الصرخات تصمُّ آذان المتكبرين وتقضُّ مضامع المستبدين، ونغمة تطرب لها آذان المستضعفين والمعذبين في الأرضن، حتى ليخطئ أولئك الذين يظنون أنهم قد أخمدوا صوت الحرية بإخماد صوته، بل أن صوته لا يزال مجلجلا يصرخ فينا مشيرا لنا أن طريق الكرامة من هنا، وأن طريق العزة من هنا، وأن طريق الكرامة من هنا.
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرحة يدق
ومَنْ لم يعانِ صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفـر
وإن أمة لا تقول للظالم لا، وللباطل لا، أمة تودع منها، وبطن الأرض خير لها من ظهرها.
وليقول لأولئك القابعين في صوامعهم وأديرتهم ويريدون من الدسماء أن تنوب عنهم في كل شيء: «إن الله لا يغيروا بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
«ولئن نشعل شمعة خير من أن نلعن الظلام»
وليقول لنا الحياة بلا كرامة كالديمة بلا مطر، وكالزهرة بلا عطر.
وسيظل ترابه الطاهر أريجا نستنشق منه نسيم الكرامة.
شممن ثراك فهبَّ النسيم
نسيم الكرامة من بلقع
وعفرت خدي بحيث استراح
خد تفرى ولم يضرع
وخلت وقد طافت الذكريات
بصومعة الملهم المبدع
كأن يدا من وراء الضريح
حمراء مبتورة الأصبع
تثير إلى عالم بالخنوع
الضيم ذو شنف مترع
سيبقى الحسين (ع) يعلمنا أن الموت في سبيل الله طريق العزة والخلود وأن الحياة مع الظالمين برما.
رأى الموت صبرا شعار الكرام
وفخرا يزين لها شأنها
فأبى أن يعيش إلا عزيزا
أو تجلى الكفاح وهو صريع
«والله لا أعطيكم بيدى إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد».
«هيهات منا الذلة»
«هيهات منا الذلة»
«هيهات منا الذلة»
يعلمنا كيف نبثت على ثوابتنا مهما كانت التحديات، والظروفات والملابسات. حيث لم يكن في المؤمرات ما ينال من عزمه، ولا في المغريات ما يحطّ من عزيمته، فكان كالجبل الأشمّ الذي لا تحركه العواصف، ولا تقلقله القواصف، حتى قال أحد أعدائه مارأيت مكثورا قط قتل ولده وأهل بيته أربط جأشا من الحسين بن علي (ع)... إذ كان كلما حمي الوطيس واشتد البأس ازداد وجهه إشراقا... وكان كلما قدم الضحية تلو الضحية يرمق طرفه إلى السماء قائلا: «اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى... حتى جاءت النوبة عليه، فوقف مناديا:
إن كان دين محمد لم يستقم
إلا بقتلي ياسيوف خذيني
فحفظ بيضة هذا الدين، فبعثه من جديد بعد محاولة الأيدى الأموية الآثمة طمسه ليعيد لهم مجدهم الضائع حتى قيل: الإسلام محمدي المبدأ حسيني البقاء.
فإذا بدأ الإسلام في مكة على يد الرسول الأكرم محمد «ص الله عليه وآله وسلم» فلقد عاد مجددا على يد حفيده الحسين(ع) في كربلاء.
ولئن جاء النبي (ص) وبعث لتحطيم الأوثان البشرية، ولئن تآمرت قريش على حياة النبي (ص) في مكة حتى هاجر منها إلى المدينة، فلقد تآمرت بنو أمية على حياة حفيده الحسين (ع) في مكة حتى هاجر منها إلى أرض كربلاء، لإكمال المسيرة... ووقف يواجه القوة التي لا تقهر وحيدا في معركة غير متكافئة لا عدة ولا عددا، سطّر فيها أروع البطولات حتى بقيت ملحمته الدامية التي يندى لها جبين الإنسانية وتقوم لها الدنيا ولا تقعد أنشودة في فم الدهر ولحنا تردده الأجيال، يرفع لها في كل وادٍ علم ينصب لها في كل قلب مأتم، حتى كأن كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء.
ووقف أعداؤه يضربون المثل في الخسة والدناءة في حربهم له، اخترقوا فيها كل شرائع السماء وقوانين الأرض فقتلوا حتى الرضع من الأطفال، وقطعت الرؤوس، ومثل بالأجساد، وأحرقت البيوت على رؤوس عقائل النبوة وبنات الرسالة... مما وضعهم في قفص الاتهام أمام محكمة الضميرالإنساني تلاحقهم لعنة الدهر وسبّة الأجيال.
جواد منصور الحلواجي
العدد 2662 - السبت 19 ديسمبر 2009م الموافق 02 محرم 1431هـ
الله
الله اجازيكم خير