العدد 2660 - الجمعة 18 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ

«بداية المجتهد» كتاب مرجعي في مقارنة المذاهب الإسلامية

الابداع الرشدي في الحقل الفقهي (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

جلبت جهود ابن رشد في حقل التصنيف عداوات كثيرة فهي أغضبت العلماء وفقهاء المذاهب المختلفة ولم تلق القبول في تيار أنصار الفلسفة. ومأساته تكمن في هذه المفارقات قبل ان يغضب المنصور عليه. ويضاف إليها تأزم الوضع السياسي في الأندلس والمخاطر الآتية من محيطها الذي أثر سلبا في الحركة الفكرية آنذاك (نهاية القرن السادس الهجري) وقبل اضمحلال دولة الموحدين في سنة 667 هجرية (1268م).

طغت خلافات ابن رشد الفلسفية على أعماله الأخرى. وعلى رغم أنه لم يقدم الشيء الجديد والنوعي في حقل الفلسفة، نجد الكثير من الكتابات عنها بينما لا نجد الكلام الكثير عن مؤلفاته المختلفة ولا يذكر الا عرضا كتابه الأهم في القضاء وهو أساس تفكيره وشغله اليومي ومعاشه. فابن رشد أصلا قاضي القضاة في قرطبة، وقبلها اشبيلية، قبل ان يكلفه أمير الموحدين الاشتغال على كتب فلاسفة اليونان. وهو أساسا ابن أسرة امتهنت وظيفة القضاء. فوالده (أبو القاسم)، كما ذكرنا، تولى الوظيفة في قرطبة (توفي سنة 564 هجرية)، وجده (أبو الوليد) كان قاضي القضاة في دولة المرابطين وعصر ملوك الطوائف (توفي سنة 520 هجرية).

مارس ابن رشد القضاء يوميا لمدة 27 سنة، واجتهد واستخرج الأحكام الشرعية في المعاملات واستنبط من النصوص الشرعية مقاييسه القضائية، وكان صاحب باع طويل في الفقه وكتب فيه أهم مؤلفاته معتمدا المنهج المقارن. مع ذلك لا يعطى عمله في حقله الوظيفي الأهمية المطلوبة ولا يشار الا قليلا إلى مفاهيمه النظرية في القانون أو أسلوبه التطبيقي في عرض المسائل واستخراج أحكامها من طريق المقارنة والقياس. وعلى رغم أهمية تنظيره للأحكام الشرعية بقيت أعماله مهملة أو مغيبة عن المناظرات والمجادلات التي غاصت كثيرا في انشغالاته الأخرى.

حتى ندرك أهمية ابن رشد في حقل القضاء، لا بد من تحديد وظيفة القاضي في الإسلام وتأثيرها المركزي في سياسات الدولة القانونية، يقول القاضي عبدالنبي بن عبدالرسول الأحمد نكري ان القضاء في الإسلام «من أقوى الفرائض بعد الايمان ومن أشرف العبادات». وأهلية تولي القضاء تكون «لمن هو عالم بالكتاب والسنة ليحكم بالحق». اما الاجتهاد في القضاء فحجة «إذا لم يخالف الكتاب والسنة»، فالعلم بهما (الكتاب والسنة) شرط لتولي الوظيفة.

اختلف العلماء على أفضلية القاضي، فقيل الأفضل هو من جمع بين العلم والعدالة. وقيل ان العدالة هي شرط أولوية، وقيل شرط صحة. لذلك أجاز البعض للفاسق ان يتولى القضاء إذا كان عارفا بالكتاب والسنة (شرط العلم) وعادلا في أحكامه (شرط الانصاف). بينما قال البعض الآخر «إن الجاهل الورع أولى من العالم الفاسق»، فقدم الورع على المعرفة. واتفق العلماء على ضرورة توافر الشروط الثلاثة في القاضي: العلم والعدل والورع. (راجع حرف القاف، موسوعة مصطلحات جامع العلوم المعروف بدستور العلماء).


الصفات الثلاث

توافرت في شخصية ابن رشد وتربيته الصفات الثلاث وعرف عنه سلوكه الحسن وورعه وعدالته، اضافة الى علومه، فهو إمام عصره في الطب والفقه وعلوم الدين، وكان يخلص للحق ويكره التعصب لمذهبه.

إلى سيرته الحميدة في القضاء وكرهه لجمع المال وبذل ماله على مصالح أهل بلدته (قرطبة) ومنافع الأندلس وتعففه عن حضور مجالس الأنس والطرب أو الخوض في أحاديث المجون، عرف عنه، كما يذكر محمد عبدالرحمن مرحبا أنه كان في قضائه «يتحرج كثيرا من الحكم بالموت. فإذا لم يجد منه مناصا أحاله على مساعديه ليراجعوه ويمحصوه وليعيدوا النظر فيه قبل إبرامه». (من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، صفحة 730).

كان ابن رشد صاحب نظرية في القضاء وله في حقل الفقه أحد أهم كتبه ووضعه أساسا كمذكرات قانونية لنفسه يعود إليه وقت الحاجة، ولم يفكر بنشره. فهو مجرد مرجع خاص، إذ إن «غرضي في هذا الكتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ان أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى ان يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشارع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد» (الجزء الأول، مقدمة الكتاب، صفحة 15).

لا يعتبر ابن رشد مؤسسا لمنهج «الفقه المقارن»، إذ سبقه العشرات إلى هذا الحقل، وكتب الكثير من العلماء في تأويل مختلف الحديث واختلاف الأئمة في مذاهبهم وغيرها من المقالات الخلافية، الا أن عمل قاضي قرطبة جاء شاملا لمختلف آراء المذاهب السنية الأربعة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية)، إضافة إلى مذهب الظاهرية الذي كان له بعض الانصار في الأندلس. وعزز ابن رشد دراسته الشاملة بالكثير من الاستشهادات وحشد عشرات الأسماء للدلالة على هذا الرأي أو نقض ذاك الأمر الذي يدل على سعة معرفته في حقل اختصاصه واحترامه لمسئوليات وظيفته. فالكتاب يحدد أسباب الخلاف وعلله ويذكر أقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم مع بيان مستند الكتاب والسنة ثم الاجماع والقياس، ثم يرجح الاقيسة ويبيّن الصحيح منها أو الأصح.

ابن رشد في القضاء صاحب منهجية بحثية، استند فيها الى معرفة واسعة وخبرة طويلة ودراسة متأنية لمختلف أئمة المذاهب وأصحابهم واتباعهم فجاء كتابه «بداية المجتهد» من ابرز المراجع في حقل الفقه عموما، وفي «الفقه المقارن» خصوصا، حين استوعب مختلف الاجتهادات وأنواع الأدلة وأسباب خلاف علماء الأمة، ودرسها وقام بترجيح هذا الحكم على ذاك في أسلوب شديد التماسك وتنظيم عقلي يعرف كيف يرتب المسائل وينسقها، فأبان الأحكام الشرعية في مجالات العبادة والمعاملة ومختلف شئون الحياة وحاجات الناس ومتطلباتهم. لذلك يمكن القول إن فلسفة ابن رشد الحقيقية هي في حقل ابداعه في «فلسفة الفقه» أكثر من المشهور عنه في «فقه الفلسفة».

من الصعب ان نفصّل وجهة نظر ابن رشد الفقهية في القضاء ويمكن اختصارها الى فقرات قليلة حاول قاضي قرطبة توضيحها في مقدمة كتابه. ويصنف المسائل إلى ثلاثة مستويات: الأول «الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية». الثاني «أصناف الأحكام الشرعية». الثالث «أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف». فيرى ان الطرق التي تم منها تلقي الأحكام الشرعية عن الرسول (ص) هي بالجنس ثلاثة «اما لفظ، واما فعل، واما إقرار»، وانقسم جمهور العلماء على ما سكت عنه الشارع من الأحكام إلى فريقين كبيرين: الأول (المذاهب الأربعة) قال إن القياس هو طريق الوقوف على ما سكت عنه الشارع. والثاني (المذهب الظاهري) قال إن القياس في الشرع باطل، وما «سكت عنه الشارع فلا حكم له، ودليل العقل يشهد بثبوته». وينطلق أهل الظاهر (الظاهرية) من قاعدة «ان الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال ان يقابل ما لا يتناهى بما يتناهي» (ص 15).

بسبب اختلاف «أهل الظاهر» عن المذاهب السنية الأربعة في مسألة القياس، اضطر ابن رشد إلى تبيان أدلتهم في مختلف الأحكام نظرا إلى انتشار المذهب، الذي اضمحل لاحقا، في عهده في الأندلس. إلى جانب الظاهرية التي تختلف في منهجها لجأ قاضي قرطبة إلى منهج المقارنة في كل مسألة فيذكر اتفاق العلماء ثم يذكر اختلافهم. وفي حال تقاطع رأي الأئمة في مسألة واختلف في مسألة أخرى، كان يشير إليها من طريق ايراد الأدلة في سياق فرق وجماعات. فيذكر أسماء العلماء في هذا الجانب وأسماء العلماء في الجانب الآخر ثم يعود إلى مسألة جديدة فتختلط الأسماء، إذ نجد بعض العلماء في موقع واحد ونجد بعضهم الآخر في الرأي المضاد. وكان يورد في كل مسألة سبب اختلافهم. إذ لكل اختلاف سببه وليس بالضرورة ان يكون السبب نفسه في كل المسائل. فأحيانا يكون السبب في «معارضة العموم للخصوص» (الجزء الأول، ص 447)، أو بسبب «اختلاف القياس والأثر» (الجزء الأول، ص 456)، أو بسبب «اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر» (الجزء الأول، ص 458). وأحيانا يكون الاختلاف ناتجا عن تعارض الآيات أو تعارض الآثار أو معارضة المفهوم لظاهر الأثر.

استخدم ابن رشد مختلف الأحاديث واستند إلى أقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم وأصحاب المذاهب ومن تبعهم لتقوية دليل أو إضعافه أو إضعاف دليل وتقوية آخر ليجتهد برأيه وقياسه. وقرأ الاختلاف لغويا وتعارض النحاة بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، ولجأ إلى صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبو داود وتفاسير الطحاوي وابن حزم وعشرات غيرهم ليستخرج الحكم الشرعي على هذه المسألة أو تلك.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2660 - الجمعة 18 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:43 ص

      كل من ذكرت ليس بحجة على جميع المسلمين

      لماذا اعطى ظهره لمذهب اهل البيت حيث ان هناك 12 امام ع اضافة الى الزهراء ع وكلهم منزهون ولايستطيع احدا ان يطعن فيهم وكلهم نقلو احاديث الرسول رغم وصايا الرسول باالتمسك بهم . والقران من قبل الرسول ص اوصى بمودتهم لماذا هل يستفيد الرسول شخصيا من مودتهم ام هل يستفيدون هم من مودتنا من عدمها أليس هذا اجحافا! هل اوصى القران او الرسول باالاخذ بمن ذكرتهم رغم انهم لايمثلون الاسلام وليسو بحجة على المسلمين عامه. فمن احق ان نستقي معالم الدين والدنيا منه؟؟؟

اقرأ ايضاً