مذكرة التوقيف التي أصدرتها محكمة وستمنستر في لندن بحق وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، واعتذار وزارة الخارجية البريطانية بشأنها، تشكل بحد ذاتها رسالة تنبيه لدولة «إسرائيل» وموقعها الخاص في الذاكرة الأوروبية. فالمذكرة القضائية قانونية وهي لا تخالف الدستور ولكنها صدرت في سياق سياسي أعطاها ذاك الثقل ما دفع الوزيرة إلى إلغاء زيارتها لبريطانيا والدفاع عن سياستها ضد الانتقادات التي اتهمتها بارتكاب جرائم حرب خلال العدوان على غزة في مطلع العام 2009.
أهمية المذكرة أنها صدرت في إطار مستقل عن المؤسسات الرسمية وجاءت بناء على شكاوى تقدم بها أهالي الضحايا إلى هيئات مدنية ومنظمات تدافع عن حقوق الإنسان وتلاحق الجهات التي ترتكب جرائم حرب ضد المدنيين. والمذكرة حتى لو كانت شكلية ولا تتمتع بتلك القوة التي تتكفل باعتقال وزيرة سابقة إلا أنها تمتاز برمزية تعطي قوة دفع باتجاه وضع رقابة على تصرفات إسرائيلية تعودت حكومات تل أبيب ارتكابها من دون ملاحظة أو محاسبة. وهذا الجديد في المذكرة يشكل رسالة تنبيه تضاف إلى خطوتين سابقتين اتخذتا في الفترة الأخيرة. الأولى تمثلت في تقرير المحقق الدولي غولدستون الذي اتهم «إسرائيل» بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في عدوان غزة، والثانية تمثلت في توصية السويد إلى دول الاتحاد الأوروبي ومطالبتها «إسرائيل» باحترام القرارات الدولية بشأن القدس والأراضي المحتلة في العام 1967.
الخطوات الثلاث المتلاحقة في أقل من شهور ثلاثة تكشف عن نمو تيار أوروبي بدأ يتذمر من سياسة «إسرائيل» واحتقارها للقوانين الدولية وعدم التزامها بالمعاهدات والمواثيق والتعهدات من خلال إصرارها على سلوك طريق خاص يضع الدولة العبرية في موقع فوق الشبهات. هذه العادة بدأت تفقد وظيفتها كما يبدو إذ لم تعد القوى الأوروبية قادرة على تحمل المزيد من التجاوزات والمخالفات بذريعة أن «إسرائيل» لها مكانة فريدة ولا يجوز التعرض لها خوفا من التذكير باللاسامية وفترة الاضطهاد التي أصابت اليهود في العهود الماضية.
تجاوز بعض القوى الأوروبية لتلك العقدة التاريخية يشكل خطوة مهمة في إطار التحولات الجزئية والمحدودة التي بدأت تطرق بحياء الذهنية والذاكرة والعقلية التي سادت القارة وأعطت صلاحيات استثنائية للحركة الصهيونية أدت إلى إنزال كارثة بحق الشعب الفلسطيني والدول المجاورة.
مذكرة التوقيف وتقرير غولدستون وتوصية السويد وبيان الاتحاد الأوروبي كلها خطوات ناقصة وغير قابلة للتطبيق ولكنها في مجموعها العام ترسل إشارات تنبيه لابد من قراءة أبعادها التاريخية للبناء عليها لاحقا. فالخطوات رمزية ولكنها صدرت تباعا لتوجه رسالة معنوية ضد دولة «خاصة» وتتمتع بامتيازات لم تحصل عليها أي قوة أخرى في العالم.
«إسرائيل» منذ تأسيسها لعبت دور الطفل المدلل الذي يشاغب ويلعب ويكسر القوانين ويخترق المقدسات ويتجاوز المحرمات من دون عتاب أو عقاب، لأن الطفل شكل في تلك الفترة حاجة أوروبية يقوم بوظيفة خاصة في معادلة «الشرق الأوسط». وبسبب المهمات التي تكفلت «إسرائيل» أن تنفذها احتلت حكوماتها وظيفة سياسية كانت أوروبا وبعدها الولايات المتحدة تحتاج إليها لترويض منطقة استراتيجية تمتاز بموقع جغرافي وتتمتع بثروات تغذي الاقتصاد العالمي بقوة الطاقة.
هذه الوظيفة التاريخية أعطت خصوصية للموقع الإسرائيلي بسبب الحاجة الأوروبية - الأميركية إلى وكيل إقليمي يلعب نيابة عن الغرب دور القوة القادرة على الكسر وتطويع كل المخالفين بغطاء دولي يستند إلى شرعية وهمية مغلفة بالقانون والحقوق والعدالة.
الحاجة أعطت ذاك الزخم للدولة العبرية وبررت كل الأفعال والأعمال التي ارتكبتها ضد الإنسانية في فلسطين والمحيط العربي. أوروبا دعمت الحركة الصهيونية وسهلت مشروع الاستيطان وقضم الأراضي خلال فترة الانتداب البريطاني. وأوروبا ساندت المنظمات المسلحة وقدمت لها التسهيلات التقنية والميدانية خلال حرب التقسيم. وأوروبا تنافست مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للاعتراف بالدولة وتجاهلت نكبة الشعب الفلسطيني ونزوحه عن أرضه عنوة إلى المحيط الجغرافي.
كل هذا الصمت الدولي جاء للتغطية على الحاجة وتبرير وظيفة وكيل إقليمي جرى تكليفه بمهمات سياسية كان من الصعب على أوروبا والولايات المتحدة ارتكابها مباشرة. واستمرت الوكالة الدولية لـ «إسرائيل» تلعب دورها الوظائفي الإقليمي من العام 1948 إلى العام 1988. فخلال فترة 40 عاما شاركت تل أبيب بريطانيا وفرنسا في عدوان السويس، وقامت بتوجيه ضربة استباقية جوية - برية في عدوان يونيو/ حزيران 1967، وتلقت الدعم اللوجستي والمعلوماتي في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 لمنعها من السقوط العسكري. حتى خلال العدوان على لبنان في صيف 1982 لعبت «إسرائيل» دور الوكيل الإقليمي لمحاصرة بيروت وإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من العاصمة اللبنانية.
دور الوكالة طرأت عليه تعديلات وظائفية بعد توقف الحرب العراقية - الإيرانية في العام 1988 بناء على قرار دولي أوقف المعركة عند نقطة التوازن العسكري بين الدولتين. ولكن توقف الحرب أنتج قوتين إقليميتين قادرتين على كسر «إسرائيل» وهزيمتها ميدانيا في حال حصلت مواجهة عسكرية.
بسبب هذا المتغير الجيوبوليتكي تحركت أوروبا والولايات المتحدة لتعديل شروط وصلاحيات الوكالة الدولية بعد أن تراجعت وظائفها الإقليمية ولم تعد «إسرائيل» قادرة على القيام بمهماتها السابقة كما كان أمرها قبل العام 1988. تعديل وظائف الوكالة جاء بناء على متغيرات استراتيجية حصلت في موازين القوى بين «إسرائيل» من جهة والعراق وإيران من جهة أخرى ما أدى إلى تدخل عسكري أميركي مباشر بذريعة تحرير الكويت في العام 1990 - 1991.
الذريعة نجحت في اتخاذ غطاء دولي للتدخل الأميركي إلا أن الموضوع كان يتجاوز العنوان ويتصل مباشرة بضعف «إسرائيل» وعدم قدرتها على تلبية حاجات أوروبا والولايات المتحدة في دائرة إقليمية استراتيجية ومهمة جغرافيا واقتصاديا. لذلك أدى الانتشار الأميركي في المنطقة إلى تجميد الوكالة الدولية لـ «إسرائيل» باعتبار أن الأصيل أخذ عن الوكيل مهماته ووظائفه.
بين 1988 و2009 حصلت الكثير من التطورات الكبرى في «الشرق الأوسط الكبير». العراق مثلا شطب من معادلة القوة وخرج كدولة موحدة من الخريطة السياسية. وإيران أيضا تعاني من صعوبات داخلية تؤشر إلى نمو ضعف بنيوي في هيكل السلطة (طفيليات سياسية) ومخاوف من ضربة عسكرية. ولكن أميركا وحليفها الأوروبي أصبحا في موقع يتجه سلبيا نحو التدهور بسبب فشل المشروع من تحقيق أغراضه الكبرى على رغم الانهيارات الأهلية التي تعصف بالمنطقة.
هذه التداعيات فرضت شروطها على الولايات المتحدة ما دفع الإدارة إلى اتخاذ قرار إعادة الانتشار والتموضع تمهيدا للتراجع العسكري خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهذا المتغير الجيوبوليتكي في العلاقات الدولية والإقليمية بدأ يلعب دوره مجددا في إعادة رسم خريطة طريق تشترط وظائف ومهمات جديدة تتناسب مع خطوط التراجع الأميركية.
«إسرائيل» ليست بعيدة عن هذه الفضاءات والمستجدات والاستحقاقات. فهي بدأت مهمتها بلعب دور الوكيل الإقليمي للدول الكبرى وتحولت إلى حاجة أوروبية - أميركية تلبي متطلبات تتجاوز حجمها ومساحتها إلى العام 1988. بعد ذاك العام انتقلت «إسرائيل» إلى موقع المراقب الذي يتفرج على دور الأصيل الذي أخذ عنها مهماتها ووظائفها. الآن وربما إلى نهاية العام 2012 يرجح أن تطرأ تعديلات جديدة في صورة «إسرائيل» ومدى قدرة دول الغرب (أوروبا تحديدا) على تحمل كلفتها ومتطلباتها الأمنية والسياسية.
العلاقات بدأت تتغير بسبب دخول عوامل طارئة ساهمت في تعديل الدور والمهمات والوظائف. وهذه التعديلات أخذت تضغط على دول الغرب باتجاه إعادة هيكلة الحاجة وترتيبها لتتناسب مع التطورات التي ستنجم عن خطوات التراجع الأميركي في المنطقة.
«إسرائيل» ستدفع الثمن ولن تكون خارج سياق التداعيات. وهذا بالضبط ما بدأ يظهر من تلك الخطوات الناقصة والخجولة التي ارتسمت خطوطها العامة في المشهد السياسي. فالمذكرة القضائية، وتوصية السويد، والبيان الأوروبي بشأن القدس وأراضي 1967، وتقرير غولدستون عن جرائم الحرب في غزة كلها إشارات رمزية تؤكد وجود متغيرات في مدى حاجة الغرب إلى وكيل إقليمي بدأ يكلف دوله خسائر أكثر من الأرباح. وحين يأخذ الوكيل يخسر ويفشل في القيام بمهماته ووظائفه يبدأ الأصيل التفكير بإعادة النظر بخططه وحاجاته حتى لا ينهار ويتساقط في مرحلة التراجع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ
حقيقة بانك ضليع في الشئون الدولية
من المتتبعين لكتابتك المتعمقة والرصينة فقط رغبت بشكرك على هذا الموضوع الحساس ونتمنى ان تكون التحولات سريعة انشاء الله ليرد حق المستضعفين الفلسطنيين سريعا