تنمو المؤسسة بتدرّج وتراتبية، ولن يكون المثقف على مبعدة من ذلك؛ اذ هو في الصميم من حركيتهما وترتيبهما وتوافقهما؛ بل يمكن القول، إن التدرُّج والتراتبية يضعان في حسابهما - على أسوأ تقدير - تحييد المثقف، وتركه في مهب انشغالات بالجملة كيما يتاح لها الوقت الذي تدشن فيه نتائج ومحصلات ذلك التدرّج والتراتبية.
يحضر سلفادور دالي في هكذا توصيف ينم عن الضد مما تحاول المؤسسة تحقيقه أو الوصول إليه. خروج واع يمكن لغوايته أن يسبب إرباكا في محيط ملاييني إذا ما توافرت له فرص الخروج على المؤسسات: «لم يحدث أبدا أن رفضت لخيالي الخصب المطواع، إجراءات البحث الأشد صرامة، فهي تضفي على اختلالي الوراثي قليلا من الصلابة».
مثل ذلك الخيال هو على النقيض من التدرُّج والتراتبية، وعلى النقيض من السقف، وعلى النقيض من التأطير، يخلف وراءه دماره المنتج والفاعل، فيما هو مدرك وواع للتساؤلات التي تنشأ وتدفع إلى التفكير في «ما الذي سيقوم فوق تلك الأنقاض؟».
وبالعودة إلى المثقف الذي يراد له أن يكتب باليد اليسرى (وهو تعبير يعني باللغة الإيطالية، أن ما يتم كتابته يشكل مرتبة ثانية في اهتمامات الكاتب). لو قدِّر لتلك المؤسسة أن تحيل معظم الكتّاب والمثقفين إلى الكتابة باليد اليسرى، فلن تتردد في ذلك، بحيث يأتي كل ما ينتج عنهم في المرتبة العاشرة من اهتماماتهم، ما يجعل ذلك النتاج يصب في نهاية المطاف في صالح توجهات المؤسسة وأهدافها، أو على الأقل لن يشكِّل خطرا عليها.
يمكن تلمّس جانب مما ذهبنا إليه سابقا في عدد من كتب الروائي والسوسيولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو: «منمنمات»، «رؤية نهاية العالم»، و «اسم الوردة». في «رؤية نهاية العالم»، ثمة حديث عن الطرائق الشاذة، وعن الحركات الألفية في التاريخ، وكلها تصب في موضوعة الجنوح والشهوة اللتين هما من صميم ممارسة وذهنية المؤسسة/ السلطة وتوجهاتها.
استدرج إيكو من خلال حوارات مع موسيقيين أمثال: بريو، وهنري بوسور، في نهاية العام 1959 - 1962، إلى مساحة من كشف نقاء الفضاء، ووضوح الأفق الذي يتحرك من خلاله المثقف بعيدا عن المؤسسة بمعناها السلطوي البغيض، وهو في حقيقة الأمر ليس اكتشافا بقدر ما هو إمعان في تأكيد روعة المحصلات ورصانتها حين تتم بعيدا عن جُدُر وأسوار وسقوف المؤسسات.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ
سجون الفاشيه
المثقف له دورفي تغيير المجتمع ويجب ان يناضل من اجل قضايا المجتمع ...مثل كثير من مثقفين ايطاليين الذين سجنوا .