أجريت منذ حوالي عشر سنوات تحقيقا صحافيا ميدانيا عن «البحث العلمي في سوريا - جامعة تشرين نموذجا» لصالح صحيفة الثورة السورية التي نشرته في حينه مع ما تضمنه من أرقام وإحصائيات وشواهد وقرائن ولقاءات دلت بمجملها على الحالة المأساوية التي بلغها واقع العلم في مجتمعاتنا العربية، وحجم الخطورة الكبيرة لما يمكن تسميته تجاوزا «بحث علمي عربي»... ويومها طرحنا السؤال التالي باستنكار واستهجان شديدين: هل هناك بحث علمي حقيقي في بلداننا العربية؟!
وقد عدت منذ فترة قصيرة - وعلى نطاق أوسع - لمتابعة واستكمال بعض الأسئلة والمضامين العملية التي طرحناها في سياق إعدادنا لهذا التحقيق، وذلك عندما اطلعت على بعض الأرقام والإحصائيات العربية والدولية التي تحدثت عن أنه ومن أصل حوالي 400 جامعة مرموقة ورفيعة المستوى ومعروفة دوليا لا يوجد اسم لأية جامعة عربية على الإطلاق في مقابل وجود أكثر من جامعة إسرائيلية ضمن التصنيف ذاته... وهذا ما يجعلنا نستنتج بأن «إسرائيل» تقوم على العلم والمنطق البحثي العلمي، وليس على الجهل والتخلف، أي أنه ينطبق عليها وصف مجتمع المعرفة بامتياز، بقطع النظر عن توجهات أفرادها ومعتقداتهم المتعصبة وقناعاتهم الأسطورية، وبصرف النظر عن سياساتها ضد العرب والمسلمين غير المبررة بأي منطق أخلاقي أو علمي أو إنساني.
نعني هنا بمجتمع المعرفة امتلاك المقدرة الفكرية والعملية على استعمال واستثمار قيم العلم والمعرفة العلمية من أجل إدارة مختلف شئون وموارد وطاقات المجتمع، واتخاذ القرارات السليمة والرشيدة لتنمية معارف ومهارات الأفراد كقاعدة لعملية التنمية الإنسانية الشاملة، وذلك بالاستفادة من منظومات وحقائق ونظريات العلم المتعددة، ومنها عملية إنتاج المعلومة لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها. وقد دفعني ذلك كله إلى توسيع مضمون تحقيقي الصحافي السابق، ومحاولة التقصي عن طبيعة المعرفة البحثية العلمية العربية، وتقديم دراسة فكرية حول واقع البحث العلمي العربي.
ولابد في البداية من الإشارة إلى أن موضوع مجتمع المعرفة والبحث العلمي يرتبط بالنسبة إلينا - كعالم عربي يقف أمام متغيرات وتحولات سياسية واقتصادية ومعرفية هائلة على بداية القرن الواحد والعشرين - ارتباطا وثيقا بتقديم رؤية إجمالية موضوعية عامة عن طبيعة الوضع العربي والدولي وظروفه ومستجداته المتعددة في الحقبة الراهنة التي أصبحنا نتعامل معها من منظور مصطلحات فكرية وعملية جديدة فرضت نفسها على واقعنا بقوة ومن دون استئذان، الأمر الذي يلزمنا - كنخب مثقفة تبحث عن أيسر وأنجع السبل للبدء بتطبيق مشروع النهوض الفكري والعلمي في عالمنا العربي - بضرورة تحليل ودراسة الاستجابات وردود الأفعال «السياسية - المجتمعية» العربية المتحركة في سياق تكتيكات واستراتيجيات مختلفة تحاول بلورة مواقف وفتح إمكانات عملية متعددة للرد العملي المتوازن والمدروس على تلك المتغيرات والتحديات الخطيرة التي تثيرها تلك الأوضاع والمتغيرات، وذلك بهدف تأمين موقع آمن ومأمون، وبلورة دور فاعل للعرب في المعادلة الكونية والدولية المستجدة والسائدة في عالم اليوم، أو تلك التي يمكن أن تقوم في عالم الغد.
ومن الواضح هنا أننا عندما نتحدث عن قضية الاستجابة أو رد الفعل الجماعي تجاه متغيرات العصر، فإننا نقصد بها - تحديدا - حركية الفعل السياسي العملي، أي مجموعة السياسات التطبيقية المختصة بإيجاد أنساق ومجالات عمل، وبلورة مواقف مجتمعية وتعزيزها وتطويرها من خلال خلق واستحداث آليات جديدة للعمل تؤمن إرادة جمعية عامة يمكن أن تعمل - في إطار تفعيل تلك الاستجابات - على تقدم المجتمع العربي نحو أهدافه وتطلعاته ومستلزمات وجوده الأساسية في الحياة.
من هذا المنطلق نجد ضرورة ملحة في ترسيم حدود حقيقية وواقعية للوضع العربي المستجد، ودراسة طبيعة التقلبات السائدة على الساحة العالمية كلها بعيدا طبعا عن المجاملات والرغبويات والظنيات على اعتبار أن الانطلاق الفاعل نحو بناء المستقبل والتحكم ببعض مساراته مرهون - إلى حد كبير - بدراسة ظروف وملابسات الواقع الراهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر إلى الحجم الهائل لهذا العمل الفكري، وتعدد عناوينه الثقافية والاجتماعية، وتنوع مواضيعه المعرفية ومساراته العملية، وسعة الأفكار والطروحات المتشعبة التي يمكن معالجتها في سياق طرح مفاهيمي ناقد حر يأخذ فقط بالرقم والقرينة والإحصائية ليبني عليها رأيا وموقفا نقديا، فإننا سنكتفي بدراسة الجانب العلمي التخصصي من هذه المسألة المعرفية الواسعة أي من زاوية (البحث العلمي والتقني العربي الحالي)، وذلك من خلال إجراء مراجعة بسيطة لبعض الأرقام والإحصائيات القائمة في بعض مؤسسات ومراكز البحث العلمي العربي التي يمكن أن تعطينا رؤية واقعية عن طبيعة هذا البحث السائد في بلداننا، ومن ثم سنحاول تحليل تلك الأرقام، واستخلاص العبر والدروس من خلالها، على ضوء مستجداتنا المعاصرة، لنصل في النهاية إلى التساؤلات الاستنتاجية التالية، ومحاولة الإجابة عليها وفق الإمكانات والمقدمات العملية المتاحة أمامنا.
- هل تتوافر لدينا الإمكانيات المادية والمعنوية الواسعة والقواعد العملية والمنهجية المحددة التي يمكن أن نرتكز عليها، ونتحرك على طريقها باتجاه بناء حاضر صاعد ومستقبل واعد، قبل أن ندرس كيفية تشييد وبناء (هذا المستقبل) والإمساك بناصيته؟!
- ثم كيف يمكن أن تعمل أمة من الأمم على امتلاك المستقبل، إذا لم تستطع أن تنهض بأعباء ومتطلبات الحاضر الذي يجب أن يشكل - بحد ذاته - قاعدة أساسية لبناء ذلك المستقبل؟!
- وما هي الاستراتيجيات التي وضعتها أمتنا في لحظتها الراهنة - بما تحمله في داخلها من عوامل الضعف والتخلف والتبعية العلمية - لمواجهة تحديات قيام حاضرها قبل أن تبدأ بالسيطرة على مستقبلها؟!
يظهر للمتأمل في واقع الفعل «السياسي - المجتمعي» العربي الراهن، أن ردود فعل الدول العربية عموما على مخاطر وتحديات العصر المتنوعة والمتسعة والمتحولة، تتسم بالإخفاق والفشل في فهم وإدراك حجم التطورات السياسية والاجتماعية العالمية، وهذا ما يتجلى بصورة أكبر في فقدان الشعور العملي بضرورة الإسراع في تأمين استجابة الهياكل الوطنية المحلية في عالمنا العربي للحجم الواسع لمجمل تلك التطورات التي قد تظهر في الحاضر أو في المستقبل، ولا تعني هذه النتيجة (أو هذا الحكم شبه المعياري) أن الوطن العربي قد بقى خارج نطاق دائرة التأثر بتلك الأحداث الكونية الجسام، لكنه بدأ بالعمل، جديا، على مستوى تطبيق سياسات جديدة في شتى ميادين العمل اليومي كله، لكننا نجد أن معظم تلك السياسات - التي مثلتها مسيرة الإصلاح في معظم الدول العربية - مليئة بالتعثر والتخبط والتشتت، ولم تعط النتائج المطلوبة منها حتى الآن. فمثلا على صعيد البحث العلمي والتقني (وهو موضوعنا الأساسي هنا) لاحظنا على الدوام - من خلال استقرائنا لمجموعة البيانات والاستبيانات المسجلة والمتوفرة حول هذا الموضوع - أن هناك أزمة علمية واضحة تظهر في غياب منظومة عربية متكاملة لنقل المعرفة والخبرات، واستغلالها في ميدان التنمية الفردية والاجتماعية وفي مجال التطوير التقني والتكنولوجي.
وعندما نراجع كل أدبيات العمل والبحث العلمي العربي في الوقت الحاضر - الخاصة بدراسة مشاكل البحث العلمي وتحليل واقعه القائم حاليا - نلاحظ أن تلك الأدبيات تكاد تجمع في تقاريرها الخاصة والعامة على خمسة أمور أساسية، هي:
الأول: انخفاض عدد الباحثين العلميين الحقيقيين المشتغلين بالبحوث العلمية العربية بالمقارنة مع الدول المتقدمة ومع المعدل الوسطي العالمي نفسه.
الثاني: هشاشة وضعف البنية المؤسساتية والعلمية العربية بصورة عامة، وعدم قدرتها العملية على تحقيق أدنى معدلات الاستجابة الفاعلة والمؤثرة للتحديات التقنية الهائلة.
الثالث: ضعف المستويات الأكاديمية على صعيد قبول الطلاب في الجامعات، وضعف مستويات الترقية بالنسبة لأعضاء الهيئة التدريسية، وعدم موضوعيتها، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من أجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والاستنتاجات والانتفاع بها.
الرابع: نقص مردودية الباحث العربي، وتخاذله عن البحث والعمل نظرا لقلة تعويضه وحافزه المادي والمعنوي، حيث إن الكثير من هؤلاء الباحثين - إن لم نقل كلهم - ينظرون إلى البحث العلمي من زاوية أنه فرصة لتحسين أحوالهم المعيشية وتأمين متطلباتهم الحياتية، وهذا من حقهم طبعا، ولكن بشرط أن تكون لبحوثهم نتائج ميدانية عامة على صعيد خدمة مجتمعاتهم.
الخامس: سيطرة الشكليات والبيروقراطية، وانتشار الفساد في داخل الجسم العلمي العربي كنتيجة طبيعية للفساد العريض والشامل الذي يضرب أطنابه في داخل البنية السياسية والاقتصادية الحيوية لبلداننا العربية. ومن أبرز مظاهره الواضحة والصريحة هي في إيفاد كثير من الباحثين غير المؤهلين وممن لا تنطبق عليهم أدنى شروط الإيفاد العلمية إلى المؤتمرات والندوات وورشات العمل التي تنظمها كثير من الدول المتقدمة، ليس من أجل تقديم بحوث علمية جديدة، أو الاحتكاك بالتجارب العلمية الخارجية للاستفادة منها في الداخل، وإنما يكون الهدف من تلك الإيفادات الحصول على المخصصات المالية، والسياحة في بلدان جديدة على نفقة الدولة.
قدر بعض الباحثين عدد العاملين في مؤسسات البحث العلمي العربية عام 1984 بـ (31118) باحثا.. وإذا أضفنا إليهم عدد الباحثين من الجامعيين ويقدر عددهم بـ (10) بالمائة من عدد العاملين في سلك التعليم العالي، حصلنا على 81113 باحثا وهو ما يعطي نسبة 2.7 باحث لكل عشرة آلاف من اليد العاملة. وهي نسبة ضئيلة إذا ما قوبلت بمثيلتها في الولايات المتحدة وهي 66 % واليابان 58 % وبريطانيا 36 % وهي تمثل 44.6 عالما لكل مليون نسمة من السكان، ويبدو هذا الانخفاض في عدد الباحثين العلميين عندنا واضحا إذا نظرنا إلى توزيع القوة البحثية العالمية، فهي تتوزع على ميادين خمسة رئيسية: 36 % للعلوم الطبية، 24 % للعلوم الزراعية، 22 % للعلوم الهندسية، 8 % للاقتصاد والتجارة، ومن خلال هذه النسب نجد أن هناك غيابا كبيرا، ونقصا واضحا للعمل البحثي في ميادين العلوم الأخرى وبخاصة العلوم الاجتماعية والإنسانية (الأنثروبولوجية).
إننا نلاحظ في هذا المجال (فيما يتعلق بنوعية مؤسسات البحوث العلمية الموزعة في الجامعات العربية المختلفة) أنه على الرغم من المحاولات الجادة والخطوات الحثيثة التي قامت بها بعض البلدان العربية لدعم إنشاء وتوسيع وتطوير مراكز ومؤسسات التقنيات العلمية البحثية الحديثة، لاتزال تلك المؤسسات تعاني أشد المعاناة وتعصف بها الأزمات تلو الأزمات، وتواجه مشاكل وتعقيدات نظرية وتطبيقية كبيرة في شتى المواقع تتكدس بمجملها في وجه تقدم إنتاجيتها العلمية والاجتماعية، وتمنعها من الانطلاق المثمر والعمل المنتج والمؤثر على مستوى ضرورة وجود انعكاسات اجتماعية عملية للبحث العلمي تساهم بقوة في بناء المجتمع وتطوره وتقدمه نحو الأمام.
* كاتب وباحث سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ