العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ

الباحث التونسي الحباشة متناولا المدرسة التونسية في النقد والحجاج

في «مسامرات ثقافية» الذي يبث اليوم على «الوسط أون لاين»

بكل بساطة وتلقائية حملنا أسئلتنا إلى الباحث والناقد التونسي صابر الحباشة لنتحاور معه بشأن المدرسة التونسية. هذه المدرسة الرصينة، وخصوصا قد تتلمذ على أساتذتها وكان نموذجا لنتاجاتها، فأخذنا الحوار إلى النقد والحجاج وترجمة النظرية وما وراء ذلك من إشكالات خيانة النظرية والتأويل المضاف لنتساءل عن نتاجات الرجل بعد 12 مصنفا تدور حول النقد الحديث ترجمة وتطبيقا فيجيبنا «لم أكتب بعدُ الكتاب الذي أريدُ».

صابر الحباشة صدر لك حتى الآن 12 مصنفا مدارها حول مجال النقد الحديث والترجمة واللسانيات ودراسة المعنى هل لك أن تحدثنا عن ملامح تشكل ذائقتك النقدية.

- بادئ ذي بدء أشير إلى الزخم الكبير الذي تشهده الساحة البحرينية، فهي تشهد فائضا في النشاط الثقافي قياسا بالتعداد السكاني. ولكن تشوب هذا النشاط بعض الحسابات وبعض الحساسيات، هذا ليس موضوع السؤال، ولكن أردت أن أدلي بدلوي في إبراز شهادة عن واقع الثقافة في البحرين.

كتبي التي نشرتها لا ترقى إلى أن تعدّ كتب أحداث، فهي لا تعدو أن تكون تمارين وتدريبات على الكتابة والترجمة والبحث... ولم أكتب بعدُ الكتاب الذي أريد...

أما بالنسبة إلى سؤال «ملامح تشكل الذائقة النقدية» فهو سؤال مهم ويحتاج إلى بعض التفصيل.

لا شك في أن الذائقة تتشكل شيئا فشيئا، إذ يبدأ الواحد منا في تذوق نصوص الأدب في رحاب المدرسة وفي المكتبة وما تجود به ذائقة العصر، من خلال ما كنا نستمع إليه في البرامج الأدبية والثقافية في الإذاعة التونسية وبعض الإذاعات العربية الأخرى...

لقد انفتحت على نصوص الأدب العربي والفرنسي منذ نعومة أظفاري وكان بعض أساتذتنا يجلبنا لمطالعة القصص الفرنسية، عبر رواية مقاطع منها خلال الحصة، وكان يذلل لنا الصعاب بشرح المفردات الصعبة، وكان ذلك الأستاذ يأتي إلى المعهد قبل الوقت ويجلس في قاعة الأساتذة يطالع الكتاب ويترشف القهوة، وكنت أسترق له النظر من نافذة الفصل المواجه لقاعة الأساتذة الواقع في الطابق العلوي للمعهد الثانوي نهج الأندلس بمنزل تميم... والطريف في الأمر أن ذلك الأستاذ كان يشبه الشاعر الكبير محمود درويش، حتى أنني في مرة من المرات خدعت زملائي في الصف إذ اقتطعتُ صورة درويش من إحدى الصحف وانبريت أقول: هاهي صورة أستاذ الفرنسية فمنهم من صدّق، ومنهم من أبدى عدم المبالاة!

كما بدأت في سن مبكرة تقريبا، في مطالعة الشعر الحديث حيث اطلعت في بداية دراستي للتعليم الثانوي على الجزء الأول من الأعمال الكاملة لأدونيس، وكنت أشعر - وأنا أطالعه - بخدر لذيذ، لم أشعر به عند مطالعة الجزء الثاني، الذي بدا لي آنذاك متكلَّفا...

وبالتوازي مع ذلك، كنت أطالع بنهم الكتب النقدية، ولأحد أساتذتي الفضل في ذلك حيث كان مغرما بالنقد الجديد وبالتفكيكية وما بعد الحداثة، فكان يصدمنا بمصطلحات نقدية مستمدة من المناهج الحديثة، قبل أن يتم اعتمادها في تدريس الأدب العربي في تونس،... فكان ذلك بمثابة التحدي بالنسبة إليّ فشرعت في قراءة ما تقع عليه عيناي من الكتب النقدية التراثية والحديثة، بالإضافة إلى المجلات المتخصصة في النقد مثل فصول القاهرية وعلامات السعودية...

للمدرسة التونسية حضورها اللافت على المستوى النقدي من خلال أسماء شهيرة عززت دورها الثقافي عربيا وعالميا، من خلال دراسات جادة وبحوث رصينة، فما أهم ملامح تشكل المدرسة التونسية أسماؤها اتجاهاتها تياراتها النقدية والثقافية.

- هذا سؤال مهمّ ويستحق التنبيه على بعض الأمور بين يدي الإجابة عليه:

أولها: أن الحديث عن مدرسة تونسية أمر فيه ما فيه من «الصدق» وفيه ما فيه من «المبالغة»... قد أُرمى بالتناقض، ولكن إن تريّثنا قليلا ومحصّنا النظر وجدنا أنّ ما يُسمى المدرسة التونسية هو اتجاه في اعتماد قيم الحداثة (العقلانية، الموضوعية، النقد، الجرأة...) يغلب على المنتوج الفكري والنقدي الصادر عن الجامعات التونسية، ولكن ذلك لا يعني الرضى والتوقف عن إنتاج المعرفة... بل نحن نزعم أنه توجد أجيال بدأت تتداول على الإنتاج المعرفي، ولكن توجد مع ذلك صعوبات، سنأتي على ذكرها لاحقا...

ثانيا: تتعايش في رحاب «المدرسة التونسية» تيارات بعضها كلاسيكي ومعظمها يتوق إلى التجديد. وككل الجامعات في العالم مرّت الجامعة التونسية بحالات مدّ وجزر، بسبب عوامل داخلية وخارجية (ولا ننكر هنا صحّة فرضية «قتل الأب» أو عقلية «الأخ الأكبر»)، بل يوجد تنافس (إيجابي في كثير من الأحيان) بين الأقسام: فعلى سبيل المثال نجد أنّ من مدرِّسي قسم اللغة العربية من ينظر إلى خير الدين التونسي صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» على أنه مصلح ومفكر، في حين يعدّه بعض مدرِّسي قسم التاريخ رجلا مصلحياَ ارتكب أخطاء في سياسته... فاختلاف المنظور يولد الاختلاف في الحكم.

ثالثا: بدأت الجامعة التونسية تتخلص من التبعية الفكرية للمدرسة الفرنسية، وهي تبعية لها إيجابياتها (مثل تغلغل المنهج الديكارتي) وبدأت تنفتح على العالم الأنغلوسكسوني.

ويمكن النظر في الأسماء الكبرى في الجامعة التونسية من خلال التقسيم الثلاثي إلى قطاعات المعرفة:

1 - اللغة واللسانيات: عبد القادر المهيري (النظريات النحوية لابن جني)، الطيب البكوش (الترجمة اللسانية)، عبدالسلام المسدي (الفكر اللساني في الحضارة العربية)، محمد صلاح الدين الشريف (مفهوم الشرط)، إبراهيم بن مراد (المعجمية)، محمد الشاوش (نحو النص)، الفقيد عبدالله صولة (الحجاج في القرآن)، منصف عاشور (مقولة الاسمية في النحو العربي)، شكري المبخوت (النفي)، خالد ميلاد (الإنشاء)، عزالدين المجدوب (الفكر النحوي العربي الحديث)، صالح الكشو (مظاهر التعريف في العربية)، الأزهر الزناد (الإشارات النحوية)، ألفة يوسف (تعدد المعنى في القرآن)،...

2 - النقد والأدب: توفيق بكار (مقدمات وشعريات وقصصيات)، حمادي صمود (الفكر البلاغي عند العرب)، حسين الواد (التجربة الجمالية عند العرب)، محمد الهادي الطرابلسي (خصائص الأسلوب في الشوقيات)، محمود طرشونة (الأدب المقارن)، علي الغيضاوي (الإحساس بالزمان في الشعر العربي القديم)، توفيق الزيدي (المصطلح النقدي)، محمد القاضي (الخبر في الأدب العربي)، صالح بن رمضان (الرسائل الأدبية)، مبروك المناعي (المال في الشعر العربي)، محمد لطفي اليوسفي (فتنة المتخيل)، رجاء بن سلامة (العشق والكتابة)، العادل خضر (المقاربة الوسائطية للأدب العربي)، محمد الجويلي (أنثروبولجيا الحكاية)،...

3 - الحضارة والفكر: محمد الطالبي (ليطمئن قلبي)، عبد المجيد الشرفي (الفكر الإسلامي في الرد على النصارى)، هشام جعيط (الفتنة)، منصف بن عبدالجليل (الفرقة الهامشية في الإسلام)، محمد الحداد (في آليات الاجتهاد الإصلاحي وحدوده)، وحيد السعفي (العجيب والغريب في كتب التفسير)، عبد المجيد البدوي (مواقف المفكرين من قضايا النهضة)، محمد فوزي البدوي (الجدل الإسلامي اليهودي)، محمد بوهلال (الغيب والشهادة في فكر الغزالي)، فتحي التريكي (الفلسفة الشريدة)، الطاهر لبيب (الغزل العذري)، ...

وهذه الأسماء إن هي إلا قائمة مفتوحة لم أذكر فيها سوى جزء يسير... وهي قائمة متحيزة لا شك في ذلك ولكنها تمثل جانبا من جوانب المشهد البحثي الثريّ في الجامعة التونسية.

تتظافر على نقل المناهج النقدية الحديثة إلى اللغة العربية عدة ترجمات مختلفة تحاول الانفراد بالمعنى والتأويل فضلا عن تشابك النظريات النقدية نفسها وتشابه مفاهيمها، ألا يخلق هذا حالا من اللبس والتحوير وفي عدم الوصول لنسخة أمينة تسعف القارئ العربي.

- يبدو أن نقل المعرفة عن طريق الترجمة من اللغات الحية إلى اللسان العربي، بدأ يشهد طفرة نوعية في الوطن العربي خلال السنوات الأخيرة. فلقد وقف أصحاب القرار، أخيرا، على ضرورة توفير أطر مؤسساتية لاحتضان الترجمات، فظهرت المنظمة العربية للترجمة في بيروت لتعزز المشروع القومي للترجمة في مصر، ومشروع كلمة وجائزة الملك عبدالله للترجمة في السعودية، وغيرها من المؤسسات والمشاريع المهمّة...

وفي هذا السياق، لا يسعني إلا أن أردد القولة الشهيرة لأحد النقاد: إن ترجمة كتاب في الميكانيكا من اللغة الهنغارية، لا يستوجب من المترجم إتقان اللغة الهنغارية، فحسب، بل عليه أن يكون عارفا كذلك بعلم الميكانيكا. وهنا أشاطرك الرأي في وجود «ترجمات» باللغة العربية مستغلقة وغير قابلة للقراءة، لأنّ من قاموا بها لا يلمون الإلمام المطلوب بالعلم الذي يترجمون في نطاقه. وهنا نودّ من الهيئات القائمة على الترجمة أن تفعّل وتتفاعل مع جهد المكتب العربي لتنسيق التعريب بالرباط، لكي نستمتع بترجمات جيدة وموثوقة يقوم بها أناس أكفاء يعرفون كيف يتغلبون على مشاكل «الخيانة» التي تقع في صلب أيّ عملية الترجمة...

وهنا يطيب لي أن أنوّه إلى المركز الوطني للترجمة بتونس وما يقوم به محمد محجوب ومن معه لإخراج كتب رائدة وممتعة تنشر المعرفة بلغة الضاد. كما أشكر الناشر المعروف سالم الزريقاني (ليبيا) على تشجيعه للترجمات العميقة والممتعة للمظانّ في العلوم الإنسانية.

تتعدد المناهج النقدية وتختلف منطلقاتها، ألا يخلق كل ذلك حالة من التداخل والتشابك والخطل المفاهيمي وخصوصا حين تتظافر المناهج المختلفة على تناول النصوص من غير فواصل دقيقة بين تلك المناهج.

- تعدد المناهح عندما يكون غير منضبط بضوابط المعرفة الميتا معرفية، أي معرفة الأصول النظرية والخلفيات الإيديولوجية لتلك المناهج، ينتج عنه كوارث وتناقضات وممارسات «نقدية» ضحلة هي من المضحكات المبكيات... وهنا أودّ الإشارة إلى أن الغموض القائم على الإيهام بالعلمية والإكثار من الرسوم والجداول والإحصائيات التي تزيّف الوقائع وتموّه على القارئ الغرّ، فيحسب الناقدَ على شيء... وقد مارس أنصاف النقاد ذلك، فهذا يولّد نُفرة بين الجمهور الغفير وبين النقد الجديد الذي تسوّره كثير من الأدعياء...

إنّ تلقّي المناهج يجب أن يكون وفق أصولها وبوعي كبير بمنطلقاتها وخلفياتها الإيبستيمولوجية والإيديولوجية (يتخلص من ذهنية ردّ الطارف إلى التليد). وفي المقام المدرسي التعليمي، يمكن تطبيق هذه المناهج الحديثة حرفيا، قصد تمكين الطلبة من أدواتها في الإجراء والتحليل، ولكن يجب أن تتوقف الحرْفية عند هذا الطور التعليمي، إذ يجب أن يُصار بعد ذلك إلى إعمال المرونة والذكاء في حسن استثمار تلك المناهج لتكون عوامل مساعدة على إضاءة النصوص، لا أن تصبح حاجزا يحول بين المرء وبين أن يتذوق جمالية تلك النصوص.

بعض التيارات المنهجية ذات توجه إيديولوجي واضح، وهذه التيارات بدأت سوقها تكسد منذ عقود، وحتى الغلوّ في «العقيدة البنيوية» - إن صحّت العبارة - قد تمّ تجاوزه... ينبغي أن يكون تعدد المناهج مفتاحا لحسن قراءة النصوص وتأويلها، لا سبيلا إلى اللواذ من بذل الجهد الكافي للتمكن من تلك المناهج... وما زال الأمل يحدونا في ابتكار منهج غير مستورد يلائم خصوصية الثقافة والبيئة العربيتين، خصوصا في ظلّ مخاطر الذوبان الثقافي في «بوتقة صاهرة» قسرية، لا تبقي على هوية ولا تذر للعرب قضية.

بدأ الحِجاج يأخذ مكانة مهمة في النقد الحديث من خلال جهود المدرسة التونسية وتعزيزها لحضوره عبر دراسات نظرية وأخرى تطبيقية فما أهم الفتوحات التي يعد بها على المستوى التطبيقي في تداوله للنصوص.

- الحجاج هو - حسب وجهة نظر الباحثة روث أموسي (Ruth Amossy) -استعمال الوسائل الكلامية بهدف تحقيق اتفاق حول ما تعتبره مجموعة معيّنة معقولا، فيما يتصل بموضوع هو محلّ جدل ما. إنّ ما هو مقبول وعقلانيّ يشترك في إنشائه دائما أناس يتجاذبون أطراف الكلام. وإنّ حيوية هذا التجاذب للكلام، المتحقق لا في لغة طبيعية فقط، بل أيضا في إطار ثقافيّ مخصوص، ينبغي توضيح معالمها. انطلاقا من وجهة النظر هذه، ليس كافيا إعادة بناء خطاطات التفكير. ومثلما أنّ اللوغوس يُعرَّف بكونه فكرا ولغة، فإنّ الخطاطات المجرّدة يجب أن تُفحص في تحققاتها الكلامية، في وضعية خِطاب معيَّنة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحجاج يُدرّس في تونس منذ المرحلة الثانية من التعليم الأساسي، وصولا إلى الباكلوريا. وبذلك يتم تعويد التلاميذ على المنهجية الحجاجية في تحليل النصوص.

أمّا بالنسبة إلى الدراسات والبحوث الحجاجية النظرية والتطبيقية، فلا مناصّ من ذكر كتاب تأسيسي في الحجاج عنوانه «أهم نظريات الحِجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم» (1998) إشراف الأستاذ حمادي صمود وهو كتاب جماعي. ويمكن أن نذكر الفقيد عبدالله صولة وأطروحته الرائعة «الحِجاج في القرآن من خلال أهم مظاهره الأسلوبية» (الطبعة الأولى 2002، الطبعة الثانية 2007) ومحمد نجيب عمامي في كتابه الجديد: «تحليل الخطاب السّردي، وجهة النظر والبعد الحجاجي» الصادر عن مسكيلياني للنشر ووحدة الدراسات السرديّة بكليّة الآداب والفنون والسرديّات بمنّوبة (2009 في 144صفحة)، مع مقدّمة لمحمد الخبو. بالإضافة إلى كتاب كورنيليا فونراد صكوحي «الحِجاج في المقام المدرسي» (2004) وكتاب «الحِجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني الهجري :بنيته وأساليبه « لسامية الدريدي(2008). ولا يفوتنا أن نذكر الكتاب الضخم الذي أعده الصديق حافظ إسماعيلي علوي تحت عنوان «الحِجاج مفهومه ومجالاته: دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة» (تحت الطبع) وهو كتاب جماعيّ لي شرف الإسهام فيه، فضلا عن أقلام شهيرة في هذا المجال من تونس والمغرب بالأساس.

العدد 2659 - الخميس 17 ديسمبر 2009م الموافق 01 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:01 م

      مفهوم المدرسة التونسية

      مفهوم المدرسة التونسية yo yo yho yo

    • زائر 1 | 5:09 م

      ارجو افادتي بالمزيد وكيفية الاتصال بكم

      ارجو افادتي بالمزيد وكيفية الاتصال بكم

اقرأ ايضاً