استقبال الرئيس باراك أوباما الرئيس اللبناني ميشال سليمان في البيت الأبيض في لقاء هو الثاني بين الرئيسين في أقل من سنة يعتبر رسالة أميركية تؤكد اهتمام واشنطن وحرصها على سيادة لبنان واستقراره.
الرسالة واضحة ولكنها جاءت في سياق متغيرات دولية وإقليمية تؤشر إلى هبوط أسهم لبنان في البورصة السياسية الأميركية. فلبنان من يعد من أولويات إدارة أوباما التي تركز اهتمامها على مجموعة ملفات تبدأ بأفغانستان والعراق وتمر بالملف النووي الإيراني وتنتهي بأمن النفط و«إسرائيل».
أمن لبنان لايزال من الأولويات ولكنه تراجع قياسا بتلك الاهتمامات التي ظهرت تباعا في عهد جورج بوش. والتراجع لا يعود إلى اختلاف مزاج أوباما عن سلفه بقدر ما يتصل بتلك المتغيرات التي طرأت على جدول أعمال إدارة أخذت تخطط لمرحلة الانسحاب والتموضع وإعادة الانتشار. وبسبب خطوات التراجع الأميركية لم تعد ساحة لبنان تمثل تلك الحاجة كما كان حالها في الولاية الأولى من عهد بوش.
آنذاك كان لبنان يمثل حاجة إقليمية في سياق تحولات كبرى بدأت ترتسم معاملها الجغرافية في ضوء تداعيات سقوط بغداد في العام 2003 التي أدّت إلى انقسام دولي بين معسكر بوش ومعسكر الرئيس الفرنسي جاك شيراك. في تلك الفترة التي أعقبت احتلال العراق قاد شيراك معركة سياسية دولية ضمت ألمانيا وروسيا والصين ضد الولايات المتحدة ما دفع واشنطن إلى البحث عن مخارج تعزل فرنسا أو تحيدها أو تعطل حيويتها في مجالات أخرى. وبسبب ذاك الظرف الموضعي تحول لبنان إلى ساحة تجاذب أميركية - فرنسية فارتفعت أسهمه في سياق التنافس على كسب موقع متقدم لمواجهة استحقاقات انهيار الدولة في العراق وتقوض التوازن الأهلي في بلاد الرافدين.
حاجة أميركا إلى لبنان كانت ذات وظيفة مرحلية محددة بهدف مركزي وهي تحييد فرنسا وإرباك شيراك من خلال زعزعة استقرار بلاد الأرز. وشكلت عملية التمديد القسرية للرئيس السابق إميل لحود فرصة للتفاهم الفرنسي - الأميركي على موقف موحد في العام 2004 ما أدى إلى إنتاج قرار دولي حمل الرقم 1559 يرفض خطوة التمديد في إطار بنود نصت على تجريد المقاومة من سلاحها ونشر الجيش اللبناني في الجنوب وإخراج القوات السورية من البلاد.
بعد صدور القرار 1559 تراجع الاعتراض الفرنسي للاحتلال الأميركي للعراق وبدأ الرئيس شيراك يتجه نحو تهدئة أجواء التوتر مع الرئيس بوش. وازداد التفاهم بين الطرفين بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005 وبدء موجة من العنف طالت الكثير من الرموز السياسية المحسوبة تقليديا على الجانب الفرنسي.
استفادت أميركا سياسيا من الاغتيالات لأنها من جانب أخرجت القوات السورية من لبنان وأضعفت من جانب آخر النفوذ الفرنسي في بلاد الأرز. وبسبب تلك المتغيرات بدأ شيراك يخفف ويعدل مواقفه من الملف العراقي مقابل دعم وتأييد بوش لمواقف فرنسا في لبنان.
هذه الحاجة المتبادلة أعطت الساحة اللبنانية قيمة استثنائية في ظروف خاصة بدأت تتغير منذ انسحاب سورية عسكريا وعدوان «إسرائيل» في صيف 2006 وتحطيم البنى التحتية للدولة وإغراق البلاد في فوضى أهلية. وساهمت تلك المتغيرات في إضعاف نفوذ فرنسا في بلاد الأرز لمصلحة نمو الدور الأميركي في الولاية الثانية من عهد بوش.
الضعف الفرنسي أعطى فرصة ثانية للولايات المتحدة باستخدام الورقة اللبنانية للضغط على دمشق وانتزاع تنازلات تتصل بالملفين العراقي والفلسطيني ما أدى إلى تراجع أهمية ساحة لبنان لاحقا وتحديدا بعد فوز نيكولا ساركوزي بالانتخابات الرئاسية.
خروج شيراك من قصر الأليزيه شكّل مناسبة لإدارة بوش سمحت بإعادة صوغ أولويات إقليمية وضعت أمن «إسرائيل» على رأس جدول الاهتمامات وقبل سيادة لبنان واستقراره. وساعدت عودة مسألة الأمن إلى الأولوية ساركوزي على خلط الأوراق وأعطته ذاك المجال الحيوي للتحرك إقليميا خارج النطاق الجغرافي الذي صاغه شيراك في عهده.
أولويات ساركوزي اختلفت عن أولويات شيراك بسبب صداقته لتل أبيب وعدم اعتراضه العنيف على احتلال العراق. وأدى الأمر إلى تعديل نمط العلاقة الفرنسية بأميركا من خلال إعادة ترتيب جدول الاهتمامات بما يخدم أمن «إسرائيل» أولا وتهدئة الفوضى في لبنان ثانيا والانفتاح على دمشق ثالثا.
كل هذه المتغيرات الإقليمية رسمت قاعدة جديدة للتحالفات اللنبانية المحلية وموقع بلاد الأرز في دائرة التوازن ومدى حاجة الدول الكبرى لساحته. فالرئيس ساركوزي بدأ تحركاته بالتفاهم مع بوش وأخذ يعيد تركيب المعادلة وفق تصورات تعطي أمن «إسرائيل» أولوية من خلال فتح مسارات وبدائل تستعيد فيه دمشق دورها السابق مع تعديلات بسيطة لها صلة بتلك التطورات المتلاحقة التي عصفت بالمنطقة العربية بعد احتلال العراق.
السياسة الأميركية لم تتغير بعد خروج بوش من البيت الأبيض ودخول أوباما وإنما بدأت تتبدل في الولاية الثانية وتحديدا بعد عدوان 2006 وانتهاء فترة رئاسة شيراك لفرنسا. فالاختلاف بدأ في عهد بوش الذي أعطى الضوء الأخضر للانفتاح على دمشق وكلف ساركوزي القيام بمهمات صعبة تسهل على واشنطن اتخاذ تلك الخطوات المطلوبة لإعادة هيكلة علاقات تحتاجها لاحتواء تداعيات أخذت تكشف عن ضعف أميركي في الملفين العراقي والفلسطيني.
أوباما حتى الآن لم يعدل من تصورات بوش في الشأن اللبناني وإنما استمر في اتباع خطوات سلفه كما رسمها في الولاية الثانية من عهده. فالانفتاح على سورية بدأ في عهد بوش واستخدام بوابة دمشق لتعزيز الاستقرار في لبنان تعتبر سياسة فرنسية باشرها ساركوزي بعد دخول الأليزيه وجاءت بالتوافق مع توجهات واشنطن الإقليمية واهتمامها بأمن «إسرائيل» تحت سقف القرار الدولي 1701.
أهمية لبنان تراجعت قبل فوز أوباما وخروج بوش من البيت الأبيض بسبب اختلاف الأولويات الأميركية وتقلص الحاجة الدولية لساحة بلاد الأرز في فترة ما بعد رئاسة شيراك. فهذا البلد مهم ولكنه لم يعد يمثل تلك الوظيفة التي ارتفعت أسهمها في فترة اعتراض فرنسا على احتلال العراق وحاجة بوش إلى تحييد شيراك أو عزله عن «دول الضد» التي قادت معركة رفض العدوان الأميركي على بلاد الرافدين.
أوباما الآن ينفذ أو يتابع سياسة تشكلت خطواتها في عهد بوش. واستقباله أمس الأول الرئيس سليمان في البيت الأبيض يعتبر خطوة دبلوماسية لابد منها للتأكيد على الثوابت العامة ولكنها ليست بالضرورة تشكل إشارة للعودة إلى مرحلة انقضت أسبابها في فترة زمنية استثنائية.
لبنان ليس أولوية في الحسابات الأميركية. فالإدارة الحالية ورثت عن السابقة مخلفات حروب وأزمات نقد وعلاقات مأزومة وتعهدات وقرارات ومجموعة نقاط عالقة من بينها 1559 وسلاح حزب الله. وكل هذه المهمات ليست جديدة ولكن أوباما يحاول الآن إعادة ترتيبها وفق جدول أعمال يحرص فيه على ضمان أمن قواته في أفغانستان والعراق وأمن النفط في الخليج وأمن «إسرائيل»... وغير ذلك يصبح عرضة للتدوير والتفاوض والتبادل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2658 - الثلثاء 15 ديسمبر 2009م الموافق 28 ذي الحجة 1430هـ