لم يتردد الرئيس الأميركي جورج بوش في إعلان ترحيبه بالقرارات التي اتخذت في «مؤتمر مدريد» لإعادة إعمار العراق. فالرئيس الأميركي قال إن النتائج فاقت التوقعات معتبرا القرارات بداية جيدة لإصلاح ما دمرته حربه.
هذا في العلن. أما في السر فهناك الكثير من الأرقام تقول العكس. أشارت التقديرات إلى حاجة العراق إلى 60 مليار دولار لإعادة إعماره وجاءت توصيات مدريد لتجمع مبلغ 33 مليارا فقط. وتوقع المشرفون على المؤتمر إقدام الدول المدينة على إعفاء العراق من نصف ديونه التي تقدر بـ 130 مليارا إلا أن الدول رفضت التنازل عن حقوقها وطالبت بتسديد ديونها مع الفوائد. وتوقعت الولايات المتحدة أن تقدم الدول والمنظمات والهيئات والمؤسسات الدعم على شكل منح إلا أن معظم الوعود جاءت في صيغة قروض أو ضمانات قروض أو تسهيلات مصرفية تضاف إليها الاتعاب والفوائد.
في السر لم تكن لغة الأرقام مريحة. فالعراق عليه أن يسدد ديونه البالغة 130 مليارا على أقل تقدير، وعليه تسديد 90 في المئة من قروض الدول المانحة، وهو حصل على وعود تصل إلى 33 مليارا بينما يحتاج إلى أكثر من 60 مليارا لإعادة الإعمار... فهناك قرابة نصف المبلغ بحاجة إليه في السنوات المقبلة لإنجاز ما وعد به الاحتلال وهو إعادة العراق إلى ما كان عليه قبل الحرب.
والسؤال: إذا كان العراق يرزح تحت ديون لا يقوى على تسديدها خلال فترة ربع قرن، وهو بحاجة إلى 60 مليارا ليعود إلى ما كان عليه قبل حرب الولايات المتحدة عليه، وإذا كانت المبالغ التي وُعد بها تلبي نصف حاجته، وما وُعد به في معظمه ليس هبات وإنما قروض وضمانات قروض وتسهيلات مصرفية مع فوائدها... فمن أين إذن جاءت سعادة بوش وابتهاجه بنتائج «مؤتمر مدريد»؟
الجواب هو النفاق السياسي. فبوش الآن في وضع صعب بعد أن كشفت الأرقام عن عجز فاضح في خزينته وميزان المدفوعات التجاري والموازنة الفيدرالية. وهو في وضع أصعب سياسيا بعد أن اشتدت لغة النقد لاستراتيجيته الهجومية وانتقلت إلى إدارته والأجهزة الأمنية ولجان الكونغرس. وهو أيضا في حال متدهورة على مستوى تجميع الأصوات تمهيدا لإجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالمؤشرات تدل على أن أسهمه في حال هبوط وإذا استمرت على ما هي عليه نزولا فإن خسارته الانتخابات مسألة متوقعة منذ الآن.
وضع بوش أميركيا ليس جيدا وخصوصا في حال عاند الوقائع والأرقام واستمر يستنزف موارد الدولة في حروب مهلكة تدمر الاستقرار في «الشرق الأوسط» ولا تنتج سوى الخراب الذي سيصيب مصالح الولايات المتحدة قبل غيرها.
إنها سياسة نفاق. والنفاق عادة يستطيع أن يغطي ثغرة بعض الوقت ولكنه لا يقدر أن يردم هوة تزداد اتساعا يوما بعد يوم.
قبل الحرب على العراق قالت إدارة بوش إن تجربتها في بلاد الرافدين يتوقع لها أن تكون ناجحة قياسا على تجربتها الفاشلة في أفغانستان. وقالت أيضا في معرض تزيين الحرب على العراق إن الأخير يتمتع بمواصفات لا تتوافر في أفغانستان. فالعراق من البلدان الغنية ويملك من الثروات الكافية والقادرة على تغطية نفقات إعماره من دون حاجة إلى معونات خارجية كما هو حال أفغانستان. وقالت أيضا وأيضا إن في العراق دولة عريقة وطبقة وسطى عريضة وكمية ضخمة من المتعلمين وهي في مجموعها عوامل مساعدة على تحقيق نهضة سريعة تعيد بناء الدولة ونقل بلاد الرافدين من سجن تحكمه المافيات وتراقبه اللصوص إلى منطقة حرة تهب منها رياح الانفتاح والتسامح والحرية والديمقراطية إلى محيطها ودولها المجاورة. كل هذا الكلام قيل عن دولة العراق النموذجية لتسويق فكرة الحرب وبيعها للرأي العام الأميركي (والأوروبي).
الآن وبعد مرور حوالي سبعة أشهر على وقف الحرب لايزال العراق يعاني من الفوضى والانهيار العام... فعلى من يضحك بوش حين يعلن عن ترحيبه بقرارات «مؤتمر مدريد»؟.
سؤال محير وجواب أكثر حيرة. وهو يذكِّر بجواب رئيس الإدارة المدنية بول بريمر ردا على اتهام منظمة حقوقية بريطانية لإدارته باختفاء (سرقة) 4 مليارات دولار من مال العراق فقال: لم نسرق فنحن نراقب الانفاق بشفافية.
والمراقبة تكشف عن وجود معادلة غريبة وهي أن دول «مؤتمر مدريد» منحت العراق هبات تبلغ قرابة 4 مليارات فقط وهي تعادل قيمة المال المنهوب من الخزانة. ولعل التعادل بين الخارج والداخل... هو مصدر سعادة بوش وفرحه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 415 - السبت 25 أكتوبر 2003م الموافق 28 شعبان 1424هـ