أبعد مسافة من ذلك، هناك صعوبات أخرى تواجه من يحاول أن يقوم نتائج الحروب، إذ سيجد نفسه أمام الكثير من المساحات الرمادية التي تجعل المسألة معقدة إلى درجة تستحيل فيها مهمة رسم خطوط فاصلة بين الفرق الرابحة وتلك الخاسرة. نستخرج مثالا حيا من الحرب الكونية الثانية، فبالحسابات المجردة كانت كل من فرنسا وبريطاني في صفوف المنتصرين، لكن على أرض الواقع، تراجع البلدان إلى صفوف قوى عالمية من الدرجة الثانية، بعد أن كانتا في طليعة القوى العظمى المتحكمة في مصير العالم، وحلت مكانهما دول أخرى مثل الولايات المتحدة والكتلة السوفياتية.
وفي غزة وقراءة سريعة لنتائج معاركها، لا أحد أن ينكر ضخامة حجم الدمار الذي تكبده أهالي غزة بفعل القصف العشوائي المكثف الذي قامت به القوات الإسرائيلية، ناهيك عن آلاف الضحايا من الشهداء والمشوهين ممن نالتهم نيران الأسلحة المتطورة التي استخدمتها «إسرائيل» في تلك الحرب. بالمقابل لا تستطيع «إسرائيل» أن تنكر أنها لم تتمكن من تحقيق العمق الإستراتيجي الذي كانت تخطط له على أرض المعركة. هناك خسائر ملموسة لدى الطرفين ليس هنا مجال إجراء مقارنة بينهما.
قائمة طويلة من الخسائر والأرباح التي تكبدها أو حققها طرفا الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، نترك للتاريخ مهمة حوصلتها، لكننا نعتقد أن هناك مجموعة إستراتيجية من تلك القائمة لدى الطرفين بحاجة إلى إبرازها في هذه المرحلة، حتى وإن شاب العملية شيء من العجالة.
أكبر ربح حققته «إسرائيل» من ذلك الاجتياح، هو تعميق الانشقاق والنزاعات داخل الصف العربي العام والفلسطيني الخاص، فعلى المستوى العربي، شهدت الساحة العربية، أثناء المعارك شرخا عميقا في الصف العربي عبرت عنها، أربع دعوات لأربع قمم عربية: الدوحة، الكويت، الرياض وشرم الشيخ، كل منها يدعي «وصلا بغزة»، وغزة غير قادرة على إعلان «البراءة من أي منها». وتحولت قمة الكويت إلى لقاء مصالحة عربية مؤقتة غير قابلة للاستمرار وتحمل بين ثناياها كل مقومات الانفجار والتشظي. لذا فإن المسكنات التي تناولها الجسم العربي ستكون ذات تأثير محدود جغرافيا وعمر قصير بالمعيار الزمني.
الأسوأ من ذلك هو انقسام البيت الفلسطيني، ومن الداخل أيضا، وعلى الأرض هذه المرة ولأول مرة. والمقصود على الأرض هنا هو أن تحولت قضية فلسطين العامة والشاملة كي لتحل مكانها أوضاع غزة. ليس القصد هنا التقليل مما تكبدته الجماهير في غزة، ولا الإستفاف بحجم الخسائر التي تعرض لها أهل القطاع، لكننا لانستطيع أن ننكر نجاح الإعلام الصهيوني في تقزيم «أقضية الفلطسينية»، كي تبدو وكأنها قضية « غزاوية» فحسب، ومحظ إنسانية في أفضل الأحوال، مجردة من أي عنصر سياسي. ومما زاد الطينة بله، هو انعكاس ذلك الانفصام الجغرافي على الواقع السياسي الفلسطيني، فبدا الأمر وكان هنا «فلسطينان» الأولى في غزة وتسيطر عليها حركة حماس، والثانية في الضفة وتسيرها «السلطة».
هذا الانقسام العمودي في صفوف الشعب الفلسطيني ستكون له، مالم يجرِ تلافيه ودفن ذيوله على جناح السرعة، آثار مدمرة على مستقبل القضية الفلسطينية ومساراتها السياسية المستقبلية. إن هذا التقزيم للقضية الفلسطينية هو أهم مكسب من مكاسب الحرب التي شنتها «إسرائيل» على غزة. ولعل في المهاترات التي تبودلت بين الطرفين، ووصلت إلى مستوى الاتهام بصفات مثل «التخوين» و«التخاذل» و«عدم المسؤولية» كانت الهدايا التي عززت من المكاسب الصهيونية.
مقابل هذه المكاسب، تحملت «إسرائيل» خسائر فادحة، لعل في مقدمتها تنامي القناعة بعدم شرعية وصحة الإدعاءات الإسرائيلية التي تبرر الاجتياحات المتكررة للأراضي العربية تحت شعارات من نمط «تأمين حدود «إسرائيل» من العمليات الإرهابية». لقد أصبح الرأي العام العالمي على قناعة راسخة، باستثناء من قرر مسبقا منح تأييده المطلق «لإسرائيل» ، أن «إسرائيل» دولة غير قادرة على العيش في محيط مسالم، وأنها بحاجة إلى دفعة من العمليات العسكرية بين الحين والآخر تمدها بالقدرة على الاستمرار والنمو.
تتضاعف هذه الخسائر عندما يضاف إليها أن «إسرائيل» فشلت في محو حركة حماس من المعادلة السياسية في الشرق الأوسط. فقد اضطرت «إسرائيل» أن تحاور حماس، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر من خلال الوفود التي وصلت إلى القاهرة.
لقد حان الوقت أمام القيادة الفلسطينية بمختلف أجنحتها وفصائلها أن تقف أمام الأوضاع التي تمخضت عنها الحرب الأخيرة، كي تتلمس محصلة الخسائر والأرباح، فتقلص سلبيات الخسائر، وتعزز مقومات الأرباح
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2333 - السبت 24 يناير 2009م الموافق 27 محرم 1430هـ