توفي النظام (إبراهيم بن سيار بن هاني) في العام 231 هجرية ( 845 م) في عهد الواثق وفي السنة التي جدد فيها امتحان الفقهاء والعلماء بمسألة «خلق القرآن» وكانت المرة الأخيرة التي يمتحن فيها الناس في المسألة... إذ من بعدها تراجع الواثق عن فعلته وتوفي في السنة التالية وهي السنة التي تولى فيها المتوكل الخلافة ليبدأ عصر الانقلاب على حكم المعتزلة الذي دام قرابة 40 عاما.
بلغت المعتزلة في عهد الواثق أعلى قمة في تسلطها وبعدها بدأت مرحلة النزول عن الحكم والانهيار وأخيرا الاندثار. وقبل أن تصل فترتها الأخيرة وصلت المعتزلة في قوتها درجة لا تقاوم وبات رجلها الأول أحمد بن أبي دؤاد الآمر الناهي في تقرير سياسة الدولة. وفي الوقت الذي كان فيه الناس يعانون من تسلط المعتزلة كانت فرقها تعيش في أجواء الحرية والرفاهية التي وصلت حد تكفير العلماء والأئمة وتشويه الإسلام والتشكيك في القرآن ووحدة الخالق والتقليل من شأن الصانع.
وفي هذا الفضاء لعب فيلسوف فلاسفة المعتزلة (النظام) دورا خاصا سواء في تطوير فكرها والرد على المناوئين ونقد الفرق المخالفة لرأيه في الاعتزال. والنظام بهذا المعنى يعتبر المؤسس الرابع (على المستوى الأيديولوجي) لفكر المعتزلة. فقبله كانت المعتزلة في واد وبعده أصبحت في وادٍ آخر.
ولد النظام في البصرة ويرد الإمام البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» على الكلام الذي قيل عن لقبه إنه كان نظاما للكلام المنثور والشعر الموزون و«إنما كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولأجل ذلك قيل له النظام».
وجاء في «فهرست» ابن النديم انه كان «مولى للزياديين، من ولد العبيد، قد جرى عليه الرق في أحد آبائه» ويؤكد انه كان متكلما شاعرا أديبا و«كان يتعشق أبا نواس وله فيه عدة مقطعات» (ص206). ويوضح الفخري في كتابه «تلخيص البيان» ان النظام هو إبراهيم بن سنان وكان مولى يحيى بن الحارث البصري.
عاشر النظام في صغره قوما من الثنوية (يقولون بثنائية الخلق)، وقوما من السمنية (يقولون بتكافؤ الأدلة)، وخالط هشام بن الحكم (من أصحاب الإمام جعفر الصادق «ع»). فأخذ عن الفلاسفة القول بابطال «الجزء الذي لا يتجزأ» وبنى عليه قوله بـ «الطفرة»، وأخذ من الثنوية قولهم بأن فاعل العدل (الصانع) لا يقدر على فعل الجور، وأخذ عن هشام قوله إن الألوان والطعوم والروائح والأصوات أجسام، فقال ما قالته الفلاسفة عن تداخل الأجسام وهو ما يسمى بـ «الجسم اللطيف».
فلسفة النظام معقدة وفيها ما هب ودب من تخليط للأفكار والمفاهيم ولكنه تميز في القدرة على «النظم» فأسس لنفسه منهجا في التحليل والتركيب جعله الأكفأ قياسا بشيوخه وفي طليعتهم الرجل العجوز: العلاف.
يقول الجرجاني في كتابه «التعريفات» انه «من شياطين القدرية، طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة». ونقل الجرجاني عن أصحابه أنهم قالوا «لا يقدر الله أن يفعل بعبادته في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه، ولا يقدر أن يزيد في الآخرة أو ينقص من ثواب أو عقاب لأهل الجنة والنار» (ص311).
ومال الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إلى قول ما يشبه كلام الجرجاني فهو أيضا اتهمه بمطالعة كتب الفلاسفة كثيرا و«خلط كلامهم بكلام المعتزلة» إذ قال «إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري تعالى» وذلك خلافا لأصحابه إذ قالوا «بانه قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة». فالأفعال برأي النظام وبحسب كلام الشهرستاني «كلها حركات فحسب، والسكون حركة اعتماد» (ص53 - 54).
مال النظام إلى قول الطبيعيين من الفلاسفة ومذهبهم «ان الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب». ووافق الفلاسفة في «نفي الجزء الذي لايتجزأ» وأحدث «القول بالطفرة» وأن «الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت» (الشهرستاني، الجزء الأول، ص56).
والطفرة بزعم النظام «انه قد يجوز أن يكون الجسم الواحد في مكان، ثم يصير إلى المكان الثالث ولم يمر بالثاني». وأنكر أكثر أهل الكلام قوله ومنهم العلاف وقالوا إنه من المحال أن يصير الجسم إلى مكان لم يمر بما قبله.
لم تقتصر مشكلة النظام على شططه الفلسفي وانما امتدت معركته مع الأئمة والعلماء والفقهاء في حقول مختلفة لها صلة بعلوم الدين والقرآن وتاريخ الإمامة ومنهاج الفقه. فهو نفى عن القرآن الاعجاز وقال إن الإعجاز قائم فقط «من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية». وانتقد الاجماع في الفقه وقال عنه إنه «ليس بحجة في الشرع» وهاجم القياس في الأحكام الشرعية أيضا وقال عنه «لا يجوز أن يكون حجة» وإنما الحجة «في قول الإمام المعصوم». واتهم الشهرستاني النظام بميله إلى «الرفض ووقيعته في كبار الصحابة» مع انه كان يميل إلى قول الفلاسفة الطبيعيين في «النظر والاستدلال» في تحصيل معرفة الباري تعالى وهذه مسألة تناقض أئمة أهل البيت.
تناقضات النظام كانت محطة كبرى للنقاش فهو على رغم قدرته على «نظم» اختلاف الآراء إلا أنه وقع في تعارضات كشفته أمام الأئمة ورجال الفقه. فالنظام تأثر منذ عمله في سوق البصرة بوجهات نظر مختلفة وتعرض في تربيته إلى مدارس شتى منها أفكار الفلاسفة الطبيعيين، ومنها أفكار الثنوية (ثنائية الخلق) ومنها أفكار السمنية (تكافؤ الأدلة) وأخيرا وهذا هو الأهم تأثره بأفكار هشام بن الحكم الغامضة وصلته غير الواضحة بالإمام جعفر الصادق (ع).
هشام بن الحكم شخصية غريبة ويقال إنه كان يدعى «أبومحمد الشيباني» وهو من أهل الكوفة وسكن بغداد وكان يوصف أنه «من كبار الرافضة، كان مجسما، ومن الغلاة». وتذكر كتب التاريخ والفرق والملل والنحل عنه أنه كان «ينقطع إلى يحيى بن خالد، وكان عارفا بصناعة الكلام، وله مصنفات». والأهم ادعى أنه كان من أصحاب الإمام جعفر الصادق. وهناك شك في ذاك الإدعاء نظرا لأفكاره المتعارضة مع التقوى والدين.
يقال عن هشام إنه كان رجل سياسة لا دين وتقرّب كثيرا من رجال السلطة في عهد هارون الرشيد واحتل مكانة في تلك الفترة إلى أن حصلت «نكبة البرامكة» فاختفى عن الصورة وقيل إنه عاش إلى خلافة المأمون. هذا الرجل السياسي الغامض والمتناقض كان أحد أساتذة النظام وقيل إنه لعب دورا في تخليط أفكاره بأفكار الفلاسفة والثنوية والسمنية وغيرهم من مدارس شوشت على الفكر الإسلامي آنذاك.
صلة النظام بابن الحكم فُسّرت على أنها كانت السبب في قول فيلسوف المعتزلة بأن «لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا أو مكنونا» إلا أنه حين أنكر إعجاز القرآن وأجاز اجماع الأمة على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال وأبطل القياس وخبر الواحد وعاب أصحاب الحديث ورواياتهم انكشف سره ولم يعد بإمكانه التلطي بقشور خلافية لا تمت بصلة إلى جوهر عقيدة التوحيد. فالنظام كان يقول بالجزء الذي «لا جزء له» وهذا قاده إلى القول بقدم العالم وأن هناك أكثر من خالق للكون. هذا الكلام وضع النظام على خلاف مع جميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث وآراء الخوارج والشيعة الإمامية وأيضا النجار (الحسين بن محمد). لذلك اتهمه البغدادي بأنه أخذ فكرة ابطال النبوات وأنكار اعجاز القرآن في نظمه عن «البراهمة» لا عن ادعاء صلته بابن الحكم وآل البيت.
أثارت أقوال النظام الكثير من فرق المعتزلة إضافة إلى الأئمة والعلماء والفقهاء. ويقول البغدادي في «الفرق بين الفرق» والفخري في «تلخيص البيان» والأشعري في «مقالات الإسلاميين» إن بعض فرق المعتزلة ردت عليه وكفرته ورد عليها وكفرها. فالعلاف رد عليه في مسائل الاعراض والإنسان والجزء الذي لا يتجزأ، ورد الجبائي على قوله في أن المتولدات من أفعال الله بإيجاب الخلقة وكفره في احالته قدرة الله على الظلم وفي قوله بالطبائع، ورد الاسكافي عليه في كتاب كفره فيه في أكثر أقواله، وصنف جعفر بن حرب فيه كتابا كفره في مسألة ابطاله الجزء الذي لا يتجزأ.
وهناك من فرق المعتزلة من أيد النظام وخالفه في آن فاتفق معه الأسواري وابن حابط وفضل الحدثي والجاحظ في بعض أقواله وخالفه كل واحد منهم في أقواله الأخرى أو زاد بعضهم عليه فيها.
إلى ذلك رد العلماء والفقهاء والأئمة في زمانهم على أفكار النظام، فأصدر الأشعري ثلاثة كتب ضده، وأشار القلانسي إلى أفكاره ودحضها في كتبه ورسائله، وللقاضي أبوبكر (محمد بن أبي الطيب) كتاب كبير يفند فيه أصوله ومصادره الفكرية. وتركز النقاش مع النظام على مجموعة أفكاره المركبة من جهات مختلفة وخصوصا تلك التي أخذها من الثنوية البرهانية التي تقول بالنور والظلمة (خالقان لا خالق واحد). (راجع البغدادي، في كتاب الفرق، ص113 - 136).
توفي النظام قبل سنة من رحيل الواثق (آخر خليفة عباسي معتزلي) في منزل «حمويه صاحب الطواويس»، كما يذكر ابن النديم في «الفهرست» وله عشرات الكتب منها «التولد والحركات» ومنها الردود على الهيولى، والدهرية، وأصناف الملحدين، والمعاني على مُعمر، والرد على المرجئة. (ص206).
أحدث النظام انقلابا فلسفيا في فكر المعتزلة الكلامي ونجح في استقطاب الكثير من الشيوخ والرموز إلى جانب مدرسته اذ وافقه علي الأسواري (توفي 240 هجرية) في «جميع ما ذهب إليه» كما يذكر الشهرستاني، كذلك وافقه «أبوجعفر الاسكافي وأصحابه من المعتزلة» كذلك «الجعفران: جعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب» كذلك «محمد بن شبيب، وأبوشمر، وموسى بن عمران» ومن أصحابه أيضا «الفضل الحديثي، وأحمد بن حابط». والأخيران قال عنهما الراوندي (الملحد) في كتابه «فضائح المعتزلة» انهما «كانا يزعمان أن للخلق خالقين: قديم (...) ومحدث (...)» وأثارت تهمة الراوندي المعتزلة فرد عليه الكعبي في كتاب لنفي التهمة.
غادر النظام الدنيا إلا أن أفكاره لم تغادرها فهي استمرت تثير الجدل حتى بعد سقوط المعتزلة عن الحكم في نهاية عهد الواثق وبداية خلافة المتوكل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 413 - الخميس 23 أكتوبر 2003م الموافق 26 شعبان 1424هـ