العدد 412 - الأربعاء 22 أكتوبر 2003م الموافق 25 شعبان 1424هـ

أطلقوا سراح السجناء... صرخة الحق والإنسانية

العفو عند المقدرة

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

«لا يتعلم الإنسان الحرية إلا من الحرية نفسها فالانسانية تكتسب قوة جديدة في كل مرة يفك قيد من قيودها. فليكن واجب الحكومة إذن نزع القيود، وضمانة العدل بين الجميع». (جورج كليمنصو)

بما ان موضوع عجالتنا هنا هو العقاب بالحبس أو السجن وطموحنا الذي نرمي اليه من نشر هذه العجالة هو الافراج عن المحكوم عليهم بجرائم ذات علاقة وثيقة بالحق العام لاعتقادنا واعتقاد جميع المحكوم عليهم تقريبا بعدم شرعية التحقيق والمحاكمة التي حققت معهم أو حكمت عليهم وذلك لاعتقاد المتهم انه لم يمر عبر القنوات الصحيحة التي تمنحه جميع حقوقه التي من خلالها يتاح له اثبات براءته والتي منها كما نص مرسوم العام 1498 في فرنسا على ان يتم التحقيق مع المتهم «بأسرع ما يمكن» و«في سرية تامة» (انظر في هذا الشأن فوكو ص 72). وان الشروط الثلاثة الواجب وجودها لتأسيس «حكم حق» هي: «معرفة المخالفة، ومعرفة المسئول، ومعرفة القانون» (ص 59) والأخذ في الاعتبار ان «حقوق الانسان هي حقوق الفرد المفهوم في جوهره الشمولي المجرد. وهي منظور اليها على انها سابقة للقانون الوضعي واسمى منه من حيث انها معيار شرعيته والحدود الموضوعة للسلطة الشرعية للدولة» (ص 540 المعجم الدستوري) وبما ان جميع هذه الأمور لم يؤخذ بها فإن المحكوم عليهم يستحقون الافراج أو إعادة محاكمتهم في جميع ما نسب اليهم من تهم بوجود محاكم امام النائب العام في وقت التحقيق.

فهنا لابد من ذكر اننا نختلف مع ما طرحه فوكو من أن السجن اختراع بشري، فالسجن ليس اختراعا بشريا، بل هو من صنع الله كم جاء في الكتب السماوية ولكنه ليس مكانا يودع فيه البريء، انه هو مكان يودع فيه الانسان المذنب في حق المجتمع. «الانجيل» يورد بعض ما يشير الى وجود السجن «فأخذ يوسف وطرحه في الحضن الذي كان سجناء الملك يحبسون فيه» (التكوين 39) «وجعل قائد الحصن في عهدة يوسف. مع السجناء» (التكوين 39) «اذكرني لفرعون فيخرجني من هذا السجن» (التكوين 40) «ولرحت هنا في السجن من غير الآيات: «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه» (يوسف:33) «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» (يوسف 35) «ودخل معه السجن فتيان» (يوسف 36) «قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا ان يسجن او عذاب أليم» (يوسف 25) «فلبث في السجن بضع سنين» (يوسف 42) «وقد احسن بي اذ اخرجني من السجن» (يوسف الآية 100) «قال لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين» (الشعراء 39) «كلا إن كتاب الفجار لفي سجين» (المطففين 7) «وما ادراك ما سجين» (المطففين 8) ويذكر فوكو ان «الزنزانة» هي «تقنية من تقنيات الرهبانية المسيحية» (ص 143) وان «السجن ليس مصدره القانون الجنائي، بل هو سبق القانون، وجاء فيما بعد لينظمه» (مطاع الصفدي) وان «السجن لم يكن في بادئ الأمر حرمانا من الحرية، اعطي فيما بعد وظيفة تقنية إصلاحية» (فوكو 236) غير ان البشرية وقبل ظهور الاديان اكتشفت السجن صدفة كما هي حال كثير من الاشياء التي اكتشفت ولم يكن مخططا له فبدايته كان مكانا يحبس فيه الحيوان الشرس لحين الاستفادة منه وتطور من ثم مفهومه ليحبس فيه الانسان حتى يستفاد منه (في حال العبيد).

سجن فرعون

تذكر كتب التاريخ ان لفرعون «سجن أشد من القتل لانه اذا سجن احدا لم يخرج حتى يموت». انظر «فتح الغدير» للشوكني، وللحجاج سجن لا يوجد له مثيل يسمى «الديماس» وقد اطلق سلمان بن عبدالملك من سجن الحجاج عندما عزل ما يزيد على «ثلاثمئة ألف ما بين رجل وامرأة» (الدوميري) وفي العام 80 احرق العامة الحبس وفتحوا السجون، وللعرب اسماء كثير للسجن منها: الحبس، الازل، البسل، الثأثأة، الثبر، جعجعة، الطفن، المطمورة، العفس، التعنية، القصر «وكان للعرب أيضا سجون مشهورة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «مخيس»: سجن كان بالعراق. «الفلق»: سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون»، «الديماس»: سجن للحجاج في العراق. «عارم»: سجن في مكة، سجن الزنج، سجن خزانة في القاهرة، سجن ابي غريب في بغداد الاكثر شهرة وقد اطلق «الرئيس المخلوع» كل من فيه قبل خلعه ليفوت الفرصة على من يأتي بعده لاطلاق من فيه من سجناء ابرياء وليذكره التاريخ بحسنة عن كل سيئاته لكون الحسنة بعشر امثالها. سجن اليعافرة في اليمن، سجن القص في ايران، سجن الكترز وهو اشهر من نار على علم في اميركا يقبع حاليا وسط البحر ليس فيه من سجين سوى السياح يأتون ليرى كل منهم صورته الرعناء. إننا إذ نذكر هذه السجون، نذكرها فقط لنذكر الموهومين بالقوة وبسجن الناس ظلما وجورا أن جميع هذه السجون أضحت في مزبلة التاريخ النتنة وان البشرية لتتبرأ منها ومن كل طاغ من الطغاة غرته تلك اللحظة الصغيرة جدا والتي لا تعد في مجرى التاريخ قوته ووهمة الكبير بأن السجن هو الحل.

والسجن في اساسه وبالنسبة إلى فوكو وكثيرين غيره ممن درسوا السجن لا يعدو كونه «ثكنة صارمة قليلا، مدرسة من دون تساهل، مشغل قاتم، ولكنه، في نهاية الأمر لا يختلف عنها بشيء من الناحية النوعية». (ص 236) فهو بهذا المفهوم لا يختلف عن المدرسة وعن المستشفى في الاهداف الرئيسية وأهمها عودة الصحة إلى الجسد المريض وعقله. غير ان الحقيقة التي يراها العلماء هي غير ذلك، فهم يرون «السجن اداة انتاج للجريمة والانحراف». وان المنحرف العابر يتخرج من السجن خبيرا بارتكاب الجرائم الموصوفة قانونا» وان كثيرا من السجناء يعودون إلى السجن، ما يؤكد عدم فاعلية السجن في ردع المذنب عن الاتيان بذنب مشابه. ودليل على ذلك في سجن «جو» هناك من مذنبين يعودون إلى السجن مرارا على التهم نفسها التي ادينوا بها. ولهذا يرى فوكو ان «المؤسسة العقابية»: «غدت مؤسسة لإدارة الجريمة وليس لمكافحتها».

وسأل كثيرون عن ماهية الجريمة، فهل هي: «ردة فهل عصابية، مرحلة هذيان، انحراف؟ لانه «لم تعد المسألة ببساطة» من هو فاعل الجريمة؟» ونظر القانونيون والمشرعون في علم الوراثة والجينات ليتأكدوا أن المتهم لا يحمل صفات وراثية اجرامية، وخصوصا في فرنسا، حيث «إن القانون الفرنسي اصبح منذ مطلع الستينات يلتزم بما تمليه هذه الكروموزومات «وجيناتها» من صفات لابد للانسان في اختيارها... فاذا كانت جينات الكروموزمات تحتوي منذ الازل على صفات وراثية انفعالية قرر له قبل ان يولد ان يكون حاد الطباع شرس الاستجابة... فمن العبث ان يحاسبه القانون على جناية قتل المعايير نفسها التي يحاسب بها قاتلا جيناته وكروموزوماته لا تحتوي على صفات وراثية عصبية او انفعالية» كما ان «هناك ايضا من كتب عليه قبل ان يولد ان يكون مريضا بالكليتومانيا أو داء السرقة وقد يكون هذا المريض ملكا لا يتورع عن سرقة ولاعة ثمنية في صالونك اذا زارك. وهو لا يسرقها عن حاجة او فقر، وإنما لان جيناته او كروزوماته تحتوي على صفات لص. هذا الانسان اصبح القانون الفرنسي يعطيه شيئا من العذر ولهذا اصبح القانون الفرنسي يعطيه شيئا من العذر ولهذا اصبح تحليل دم المتهم شرطا اساسيا من شروط التحقيق في كل قضية... تماما مثل اخذ البصمات وتحرير الأدلة» (طبيبك الخاص ص 8) كما ان المادة 64 من القانون الفرنسي تنص على: «عدم وجود جريمة أو جنحة إذا كان المخالف في حال جنون لحظة الحدث». وخلص فوكو إلى ان علم الحقوق وتاريخ الجريمة، وسيكولوجيا الاجرام، وسوسيولوجيا الاجرام، وعلوم السياسة والاقتصاد، كلها سياقات تتدارس حقيقة الاجرام». (فوكو 31).

كما نظر كثير من المهتمين بشأن العدالة إلى العدالة ودرسوا وعرفوا ايجابياتها وسلبياتها، والعادلة، من حيث اللغة هي: «الانصاف» غير ان «مفهوما يختلف باختلاف المجتمعات واختلاف التطور الاجتماعي». ورأى ارسطو في «العدالة»: «خير الآخرين»، أما «افلاطون» فإنه رأى قوام العدالة: أن يؤدي كل انسان عمله الخاص به من دون ان يتدخل في عمل سواه: فالمدينة «عادلة» إذا قام الصانع والجندي والحاكم، كل بعمله من دون ان يتدخل في اعمال الطبقتين الأخريين»، أما «لسان العرب» فيعرف العدالة بالرأي: «ما قام في النفوس انه مستقيم، وهو ضد الجور. والعدل: الحكم بالحق، يقال: هو يقضي بالحق ويعدل. وقوله تعالى: «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط» (المائدة 42) «وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل» (النساء 58) «هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل» (النحل 76) «إن الله يأمر بالعدل» (النحل 90) «فأصلحوا بينهم بالعدل» (الحجرات 9).

اما عن (اسيماكوس) فإن «العدالة» بالنسبة له لا تعدوا كونها في «صالح الاقوى». (رسل 4) وقال علي بن أبي طالب: «الرعية لا يصلحها الا العدل». اما في «رحلات جلفر» فإن العدالة تصور «في ساحات القضاء بتمثال له ست عيون، اثنتان في الامام، ومثلهم في الخلف، وواحدة على كل جانب، للدلالة على التبصر والحذر، وفي يمناها حقيبة ذهب مفتوحة، وفي يسراها سيف مغمد، اشارة الى انها اشد حبا للاثابة منها للعقاب». (ص 76) ويذكر فوكو «ان التعذيب لا يعيد العدالة، إلى نصابها». واشار القديس اغسطين الى انه «من دون عدل فإن الدولة تكون عصابة من قطاع الطرق» (فكر القانون ص 97).

هنا كان لا بد لنا ان نتطرق إلى «القانون»، ايضا ونعرفه كما: أفادتنا به الكتب، غير اننا فضلنا ألا نخوض في هذه المسألة لسبب تشعب التعريفات ونحدد التسميات، نذكر ان منها على سبيل المثال لا الحصر: «القانون الدستوري»، «القانون التنظيمي»، «القانون العسكري»، «القانون المالي»، «القانون الطبيعي»، «القانون الإداري»، إنه «النص الذي يتداول فيه المجلس النيابي أو يقرر طريق الاستفتاء ويصدره رئيس الجمهورية» (المعجم الدستوري ص 844) و«القانون» هو «مجموعة قواعد يخضع لها الناس في حياتهم» وهو «وليد الحاجة، المنبثقة عن هذه الحياة هي في الواقع في تطور مستمر (التشريع الاسلامي ص19)، وهو مصدر رزق كما جاء على لسان النبي موسى: «ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان. إنه يعيش من القوانين أيضا» (السفر الخامس/ الانجيل) وهو «شر يجدر بالإنسانية التخلص منه» كما جاء عن فلاسفة عظام من «أفلاطون» إلى «ماركس» (فكرة القانون، دينيس لويد، ص5) وأن الطبيعة «في الإنسان ليست سوى غريزة» وكثير «من القوانين البشرية» تكبح «وتقيد غرائز الإنسان» (فكرة القانون ص 91) وأن «قوة القانون مرتبطة دوما بالقواعد التي يمكن فرضها بالقسر، فالجلاد والسجان والحاجب والشرطي كلهم جزء من جهاز النظام القانوني القائم» (فكرة القانون ص43) و«أن القوة أو العنف خطأ في حد ذاتهما، وأن القانون الذي يرتكز كليا على العنف ينتهك مبادئ الأخلاق والآداب الحقة، ويؤكد هؤلاء أن القوة هي نفي أو تحطيم للقانون، وأن اللجوء إلى العنف يقع خارج إطار القانون. وأنه عنصر دخيل يلجأ إليه عندما يعطل حكم القانون» (فكرة القانون ص 43 - 44) وأول «قانون جنائي» صدر العام 1910 في فرنسا.

سجناء الحق العام

نأتي الآن إلى ما نرمي إليه من هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء لكي نؤكد ضرورة إطلاق سراح السجناء المحكومين في تهم لها علاقة بالحق العام. وإذا نحن نسعى جاهدين إلى احقاق الحق لعلمنا «بتوجيهات القيادة» في «المملكة» لحل غالبية المشكلات ذات العلاقة بالمواطن بشكل خاص والإنسان بشكل عام، وبدءا نقول إن «وزارة الداخلية» لا شأن بها في هذا الموضوع: «العفو»، لكونها جهة تنفذ أحكاما صدرت في حق المحكوم عليهم فقط، ولا سلطة لها في العفو عن المحكوم عليهم لأن، سلطة العفو، عند جلالة الملك، فقط، لكون العفو هو: «إجراء تتخذه الدولة ممثلة برئيسها ويقضي بالصفح عن جميع المذنبين والمحكومين والمعتقلين والسجناء (...) فقد تلغى العقوبات الصادرة بحقهم، أو تخفف المدة المتبقية لهم في السجن ويطلق سراحهم». (الموسوعة السياسية) و«أن العفو يشكل امتيازا شخصيا لرئيس الدولة، ويعود إلى تقليد حق ملكي». (المعجم الدستوري ص801) والعفو «وهو حق في إعفاء محكوم عليه، كليا أو جزئيا، من تنفيذ عقوبة أو إبدالها بعقوبة أخف، فردي وفي النادر جماعيا، ويمكن أن يكون صافحا فيمحو عند ذلك أي أثر للحكم». (المعجم الدستوري ص800) والحق في العفو صلاحية مورست منذ أزمنة قديمة جدا من قبل العاهل كامتداد لمنصبه في إحقاق العدالة (المعجم الدستوري ص800) ويبلغ من يعفى عنهم في فرنسا وحدها في العام من 1000 إلى 2500 سجين.

بقي أن نقول إن وزارة الداخلية يمكنها وبالتعاون مع الجهة التي اصدرت الأحكام: وزارة العدل في حق المذنبين أن تصلح السجون وأن تتخلص «في بادئ الأمر من الوهم القائل إن العقوبة هي قبل كل شيء أسلوب في قمع الجرائم». «فوكو 63 وقد ذهب جودوين إلى أن شرور المجتمع لم تنبع من طبيعة الإنسان الخاطئة والفاسدة، بل من الآثار السيئة لمؤسسات القمع». (فكرة القانون ص 24) ويجب أن يتحول مفهوم العقاب من «الانتقام إلى الإصلاح».

ونرى إلى جانب ما نرى، من أمور عدة، أن سجن «متعاطي المخدرات» هو حكم يشوبه الخطأ لأن المتعاطي إنسان مريض مثله مثل أي مريض آخر وربما هو اتعس من كل المرضى الذين عرفتهم البشرية، لكون «المخدرات تستعبد العقل»، هنا اسمحوا لي أن انقل لكم صورته المرضية التي يجب أن يعالج منها لا أن يسجن: ان المدمن على المخدرات ليس مكانه السجن بل مكانه مصح خاص ليساعده على التخلص من مرضه ومن محنة الادمان التي بلي بها فلننظر الى ما يحدث عندما يتوقف المدمن عن أخذ المخدر: يشتد شوقه للمخدر، اذ تشتهيه وتطلبه مسام جلده. ثم ينضح جسمه عرقا وتأخذه رجفة من البرد، من ثم ترتفع حرارته ويتقيأ لمدة ساعات كثيرة، وبعد ذلك تبدأ اعصابه بالتمدد والتقلص، فيشعر بأوجاع شديدة في كل أنحاء جسمه، وأخيرا يبدأ بالهذيان وينتابه كابوس ثقيل تفوق أهواله، افظع ما يمكن ان يتخيله المدمنون على الخمر.

وقد تستمر الحال اربعة أيام. وان لم تقدم له الاسعافات اللازمة ينهار لأنه لا يستطيع تحمل تلك الآلام المبرحة. حتى في حال تقديم الاسعافات يكون نصيب المدمن من التغلب على هذه العادة الشيطانية واحدا من عشرة فقط» (الخنجر والصليب ص 252).

انسان هذه حالته هل يمكن ان تتصوروا انه يفكر بشكل سليم؟ طبعا لا، لكن ما الحل؟ الحل يكمن في تكاتف المجتمع لانتشاله من هذا الكابوس كما ننتشل الغريق من دوامة البحر وعواصفه (وهذا موضوع آخر) وان اصلاح المدمن وعلاجه ليس من صلاحية «وزارة الداخلية» انما هو من صلاحية «وزارة الصحة» اساسا ممثلة في «مستشفى الطب النفسي»، و«وزارة الداخلية» لا تملك الادوات لتتمكن من علاج الادمان، لهذا فنحن نعتقد جازمين ان سجن متعاطي المخدرات هو اجراء غير قانوني وغير سليم إذ ان المتعاطي انسان مريض وهو مثل مريض السرطان أو مريض الايدز أو مريض السل أو مريض بوباء معد أو داء السكري... مكانه المستشفى لا السجن، مرة أخرى نقول اننا نعتقد ان كنا جادين في اصلاح حياة المدمن على المخدرات ومساعدة ذويه وحماية الوطن من العابثين في مستقبله فعلينا ان نضعهم في المستشفيات النفسية أو ان ننشئ دارا لرعاية المدمنين ليس لمدمني المخدرات فقط بل كل اشكال الادمان. السجن لا يصلح حياة المدمن لأن المدمن «حين يعود الى تعاطي المخدرات» بعد خروجه منه «فهو يبدأ بأخذها بكميات تزيد عن السابق» وبهذا تنتهي حياته بأسرع ما يمكن ان يتصورها عقل.

كما نود ان نقول ان الغالبية العظمى من السجناء عندنا هم من الاشخاص الذين يتناولون عقاقير يصرفها لهم «مستشفى الطب النفسي» وغالبيتهم يتناولون ادوية يصرفها لهم «مستشفى الطب النفسي» لحالات نفسية منها «انفصام الشخصية» أو «العدائية» وبعضها قد يقترب من «الجنون» الذي يتطلب الحجز في اعتقادي في المصح النفسي وليس السجن.

ان الانسان الذي يخطئ في حق المجتمع بخجل اشد الخجل حين يرى المجتمع الذي أخطأ في حقه يعامله معاملة راقية جدا يحفظ له حقوقه المدنية والانسانية ويحاكمه محاكمة عادلة وان الرجل المكلف بالقانون لا يأخذ القانون الى أين يريد وعلى هواه، بل هو ينظر ويتبصر في أمر الجريمة المتهم فيها المذنب ويترك للجهة التي تحمل لائحة الاتهام والجهة التي تتولى الدفاع عن المتهم اثبات التهمة أو عدمها على المتهم بكل امانة وصدق.

صحيح ان السجناء اقل جوعا وهم في حماية دائمة من تقلبات الطقس من برد وحر من كثير من العمال والفقراء من الناس ولكن هذا لا يمنع ابدا من الدفاع عنهم وطلب خروجهم من السجن اذا ما كانوا ابرياء، هناك مقولة للامام علي بن أبي طالب (ع) تقول في فحواها انني على استعداد إلى ان اطلق سراح الف سجين اذا تبين لي ان هناك سجينا واحدا بريئا داخل السجن ولا أعرفه. ان ادخال المريض للمستشفى علاج للبدن، ادخال المريض عقليا الى المصح علاج للعقل، ادخال التلميذ الى المدرسة علاج للجهل، ادخال المذنب الى السجن علاج للجريمة، لكن هل نحن حقا نعالج الجريمة؟ طبعا لسنا كذلك في الوقت الحالي، فاذا اردنا ان نعالج الجريمة فيجب ان تكون لدينا احصاءات معلنة عن نسبة المتعلمين والاميين بين المساجين ومعلومات عن السجناء اجتماعيا ونفسيا وعن اسباب الجريمة في البحرين. كما يجب ان تراعي «ادارة المؤسسات العقابية» وجود «مشرف اجتماعي» يدرس حال السجناء اجتماعيا، و«طبيب نفسي» ليدرس حالتهم النفسية، ومدرسين متفرغين أو غير متفرغين للرقي بمستواهم التعليمي وزيادة الوعي لديهم بأهمية الحفاظ على المجتمع، وطبيب على مدار الساعة يتحدث العربية بطلاقة، السجين مواطن وليس من حق أية سلطة ان تمنع عنه الرعاية الصحية التي توفرها له الدولة أو الرعاية التعليمية أو الرعاية العقلية والنفسية حتى وهو خلف القضبان مذنبا أو غير مذنب، بل نحن هنا نتساءل، أين احصاءات وزارة الداخلية عن السجناء؟ كم منهم مصاب بمرض الايدز؟ كم منهم مصاب بوباء الكبد؟ كم منهم مصاب بالسرطان؟ كم منهم مصاب بالاورام الخبيثة؟ كم منهم مصاب بالسكلر؟ كم منهم مصاب بأمراض الدم؟ كم منهم مصاب بأمراض نفسية؟ كم منهم مصاب بالتخلف العقلي؟ كم منهم مصاب بالبواسير؟ كم منهم مصاب بالادمان؟ كم منهم مصاب بامراض البصر وغيرها من امراض معدية وغير معدية وخصوصا مرض «البرص» الذي ينفى المصاب به في السجون الى بعيد «اذ يتركون في قوارب لا تقف في أي مرفأ»؟

الحكم تحت التعذيب

يذكر كثير من السجناء وعائلاتهم عبر الصحف ان كثيرا من المحكومين حوكموا تحت طائلة التعذيب وقد اقتنصت منهم اعترافات لجرائم لم يرتكبوها على الاطلاق، اضافة الى ذلك فقد تم القبض عليهم من دون وجود أمر قضائي بالقبض. في بداية القرن التاسع عشر منع المساس بالجسد غير انه عندنا وحتى بداية القرن الحادي والعشرين مورست على المتهمين صنوف كثيرة من التعذيب الجسدي كما قال المتهمون أنفسهم في كثير من المرات.

وفي أميركا «للمتهم الحق في رفض اعطاء اي بيان من شأنه تجريم نفسه» (فكرة القانون ص 193) حتى من دون ان يعذب، وعائلة السجين تتعذب في كل مرة تزور فيها سجينها فهي الى جانب تحملها مشقة الطريق تتحمل مشقة اخذ المواعيد والتفتيش واحتمال المنظر البائس للملابس التي يرتديها السجين، لهذه الاسباب وغيرها حدثت حركة العصيان في السجن، وقد «حدثت حركات عصيان في السجون في كل مكان في العالم تقريبا» (فوكو 67). و«كان هذا العصيان تمردا ضد كل بؤس جسدي كامل عمره اكثر من قرن: عصيان ضد البرد، ضد الاختناق، والتكديس، ضد الجدران البالية، ضد الجوع، وضد الضرب». (فوكو 67) وعمت اوروبا موجة لاصلاح السجون العام 1838 صرخ فيها المثقفون في كل مكان: «احذر نظرة منك كاذبة ان تحسب السجان انسانا سويا» (228 شاريير، هنري) و«انني افضل ان أكون مجرما على ان أكون سجانا»، وحتى قبل ذلك ضج المساجين وتشكو مما هم فيه من الجوع وعذاب امام «الحجاج» فقال لهم: «أخسأوا فيها ولا تكلمون» وكما ذكرنا فإن سليمان بن عبدالملك أطلق من سجن الحجاج عندما عزل ما يزيد على «ثلاثمئة ألف ما بين رجل وامرأة» (الدوميري) وفي العام 80 أحرق العامة الحبس وفتحوا السجون، السؤال هل يجب علينا ان ننتظر اناسا كما الأناس الذين هجموا على السجون مثل «الباستيل» وغيره ليطلقوا لنا سراح السجناء الابرياء وأولئك الذين مورس في حقهم التعذيب والضرب من دون وجه حق؟ طبعا لا، نحن لسنا بحاجة الى مثل هكذا عمل أو اعمال لاطلاق سراح السجناء لأن لدينا الشجاعة لنعترف بالخطأ ولدينا الشجاعة لكي نصلح حياتنا وحياة الآخرين ونقول لهم تعلموا ألا تخطئوا في حق المجتمع من جديد. القبر هو السجن الوحيد الذي لا يمكن الخروج منه فلا تجعلوا السجون عندنا قبورا.

الأبرياء

أخيرا وليس آخرا نقول ان في السجون ابرياء كثر، ليس عندنا فقط بل في سجون العالم اجمع، اليكم هذه القصة من الواقع المؤلم:

«في ملفات المحاكم الفرنسية حكاية مواطن عادي ارتكب ذات مرة جريمة قتل، زار عشيق امرأته في بيته وكسر رأسه بخمس رصاصات. ترك المسدس إلى جانب القتيل، ترك ايضا قبعته وبطاقته الشخصية، ذهب بعد ذلك الى البيت وأخبر امرأته انه قتل عشيقها وطلب منها ان تبلغ الشرطة.

عند وكيل النيابة «جلس في مقعده هادئا» و«لم يعترف» و«لم يهتم بالادلة القاطعة» التي هي ضده، وقال «ان المرء لا يقتل احدا ثم يترك مسدسه وقبعته وبطاقته الشخصية في مكان الحادث، وان القاتل لا يدبر جريمته في الخفاء ثم يترك عنوانه للشرطة، وأي مواطن في العالم يستطيع ان يكون القاتل ما عداه هو شخصيا، وبعد ذلك قال لوكيل النيابة انه على خلاف مع زوجته وهي كذلك على خلاف مع عشيقها المقتول وربما هي القاتلة وقد وضعت حاجياتي هناك لـ «تضرب عصفورين بحجر» بعد شهور قليلة برأته المحكمة واثبتت التهمة على الزوجة البرئية من فعل القتل. بعد عشرين عاما اعترف الزوج بلعبته البسيطة التي ضحك بها على ذقن العدالة». كما ان «تلفزيون البحرين» عرض مسلسل «غوار الطوشي» الذي يحكي قصة انسان اتهم بقتل زوجته ظلما.

واني لأفتخر جدا لانه لم يكن في الكويت سجين رأي على مدى تاريخها وأسعدني هدم العقيد القذافي السجون في ليبيا واستبشرت خيرا لقيام الرئيس المخلوع صدام حسين بعد ان «حول الشعب الكويتي الى سجناء» (الوسط/ النعيمي) والعراقيين جميعا بالافراج عن مساجين الحق العام والرأي وأفرح قلوب الامهات والصبايا والشيوخ. فأرجو ان افتخر ايضا بأني في وطن لا يرضى اطلاقا بأن يرى سجينا بريئا بين القضبان.

اذا لم يكن في الامكان اطلاق سراح السجناء فإننا نتساءل هنا ماذا عن وقف تنفيذ الاحكام التي صدرت ضد هؤلاء المذنبين؟ هل في الامكان ان يحدث ذلك.

وبما أننا لا نؤمن بالخرافات فسنترككم مع هذه الخرافة التي تدل على الجهل: «من ضحى بكبشين فانه ينجو من جميع الهموم، وان كان مسجونا خرج من السجن» (حياة الحيوان للدوميري) ونترككم مع هذه الكلمات النيرة التي تستوجب الوقوف عندها: «وأمام عدالة الملوك يجب ان تصمت كل الاصوات» (فوكو 73) و«خير مناقب الملك العفو».

نرجو ان نعفو لقوله تعالى «ان الله كان عفوا غفورا» (النساء43) و«فإن الله كان عفوا قديرا» (النساء 149)

العدد 412 - الأربعاء 22 أكتوبر 2003م الموافق 25 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً