في الظروف الصعبة الحرجة، تصبح المصارحة فريضة، فإن كانت واجبة للجميع، فهي اكثر وجوبا ان تعلق الامر بالاشقاء الفلسطينيين الذين نعلم العبء التاريخي الثقيل الذي يتحملونه اليوم، دفاعا عن الأمة العربية والاسلامية، في مواجهة الوحش الاسرائيلي.
والمؤكد أنني مثل كثيرين من المؤيدين لكفاح الشعب الفلسطيني اشعر بكثير من الحرج، في توجيه نقد أو لوم للسياسة الفلسطينية، اللهم إلا ان كانت سياسة خاطئة أو عملا طائشا يرتكبه فصيل فلسطيني أو مجرد فرد فلسطيني، على رغم أنهم في حاجة حقيقية ماسة إلى الدعم والمساندة، وليسوا في حاجة إلى لوم أو تقريع، أو تخطئة وإرشاد!
لكن...
اللغم الأرضي الذي قتل في الأسبوع الماضي ثلاثة اميركيين، كانوا في غزة، يحتاج إلى اكثر من وقفة وادق من مراجعة، لانه ببساطة قد خرج على قواعد الكفاح الفلسطيني، المركز اساسا على تحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي فإن استهداف غير الاسرائيليين المسئولين عن معاناة عذابات الشعب الفلسطيني، يمثل قفزة في اللهيب، ويجر على القيادة الفلسطينية مشكلات جديدة وخطيرة، أكثر مما هي فيه من مشكلات عويصة، ويفتح عليها جبهات جديدة ومواجهات قاسية.
وهذا أمر ينبغي على الفصائل والقيادات والمنظمات الفلسطينية المختلفة، التي تقدر دورها النضالي تماما، ان تتجنب التورط، وبالتالي توريط القيادة والسلطة الفلسطينية في نتائجه ومتاعبه، التي تعود بالسلب على حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله.
وحين انفجر اللغم المزروع في الطريق، فقتل ثلاثة اميركيين كانوا ضمن قافلة وصفت بأنها مدنية في مهمة عالمية لمساعدة الفلسطينيين، فإنه في الواقع فجر ملف العلاقات الفلسطينية الاميركية، بصورة حادة، ربما لان هذه هي المرة الأولى، فيما اعرف، التي يتهم فيها فلسطينيون بقتل اميركيين.
فإذا بالادارة الاميركية، ومن ورائها الاعلام الرهيب، تستشيط غضبا، وتصب لعناتها للمرة الألف على «الارهاب الفلسطيني»، الذي لم يكتف بقتل الاسرائيليين، بل ها هو يقتل الاميركيين الذين ذهبوا لمساعدتهم!
بداية نضع نقطتين على السطر
- الأولى: هي اننا لا نستطيع ان نفصل ملف العلاقات الفلسطينية الاميركية، عن ملف العلاقات الاسرائيلية الاميركية، فالأخير هو الفاعل الحقيقي في تحريك او تجميد الأول، خصوصا بعدما خطفت «اسرائيل» حكاية «الحرب ضد الارهاب»، من اميركا، وتبنتها هي ليس فقط دعما للحليف الاميركي، ولكن اساسا لاتخاذه حجة مدعومة اميركيا، للقضاء على الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية الآن وفورا حتى الابادة!
- النقطة الثانية: هي اننا لا نستطيع ان نستبعد احتمال قيام «اسرائيل» بزرع اللغم الذي قتل الاميركيين الثلاثة، ليس فقط لأنها عمليا تسيطر بطريقة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، على كل الطرق والمعابر والمنافذ في الضفة الغربية وغزة، ولكن لان لها ايضا سوابق كثيرة في ارتكاب جرائم شهيرة والقاء تهمتها على الآخرين، كما ان مخابراتها تجيد اختراق الدول والمنظمات وتجنيد العملاء، فإن لم ترتكب الجريمة بأيدٍ اسرائيلية فهي ترتكبها بأيدي هؤلاء العملاء.
ولذلك أستبعد ان تنكشف الأيدي الحقيقية التي دبرت ونفذت قتل الاميركيين الثلاثة، وان بقيت التهمة معلقة طبعا في رقبة الفلسطينيين، بينما يؤكد بارونات الحرب في «اسرائيل»، انهم حتما سيقبضون على الجناة الفلسطينيين ويثأرون لحلفائهم الاميركيين... والضحية هي القضية!
وبصرف النظر عن كل هذا، فالنتيجة الظاهرة ان العلاقات الفلسطينية الاميركية قد التهبت وتعقدت اكثر مما هي معقدة، بينما العلاقات الاسرائيلية الاميركية ازدهرت اكثر مما هي مزدهرة، حتى كأن البلدين، اميركا و«اسرائيل»، قد توحدتا في دولة واحدة، لسياسة واحدة واهداف واحدة، ولم يعد الحلم الفلسطيني بصداقة نظيفة ونزيهة مع اميركا، الذي ولدته اتفاقات اوسلو الشهيرة، قائما الآن، فما بين أوسلو الأولى 1993، واليوم 10 سنوات كاملة، تغيرت فيها اميركا وسياساتها، ذهب كلينتون وحزبه الديمقراطي، وجاء بوش وحزبه الجمهوري.
وبين الاثنين فوارق ملحوظة، فيما يتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي عموما، وبالقضية الفلسطينية خصوصا، وان ظلت فوارق فرعية، اما الأصل فهو إيمان الاميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، بعدالة قضية «الدولة اليهودية والارض الموعودة» وواجب اميركا الديني والاخلاقي بحمايتها ومساندتها.
انجز كلينتون اتفاق أوسلو الأول والثاني، واستقبل ياسر عرفات في واشنطن وكامب ديفيد كرئيس دولة معترفا به، وبذل مجهودا في ايام رئاسته الأخيرة، عبر مفاوضات كامب ديفيد مع عرفات وباراك رئيس وزراء «اسرائيل» السابق، لتحقيق انجاز تاريخي بتوقيع اتفاق التسوية النهائية، يدخل به تاريخا سياسيا وشخصيا جديدا.
فإن كان قد فشل في تحقيق «الخطوة النهائية» فإنه لم يفشل في دعم «اسرائيل» على مدى فترتي رئاسته بكل الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، ولم يتأخر لحظة في الضغط على الفلسطينيين - والعرب عموما - واعتصار عرفات، لكي يوقعوا بأي شكل وبأي ثمن، فدعم «اسرائيل» مهمة دينية - اخلاقية قبل ان تكون سياسية أمنية، أما سياسة الترغيب والترهيب، فهي قاصرة على العرب!
أما الرئيس الحالي بوش، فقد بدأ عهده بتجاهل الصراع العربي الاسرائيلي، معلنا في البدء انه لا يريد ان يقع في خطأ سلفه كلينتون بالتورط في هذا المستنقع الدامي، ان لديه مهمات اخرى.
لكن مفاجأة هجمات سبتمبر/ ايلول 2001 على نيويورك وواشنطن، احدثت زلزالا اميركيا مرعبا، ووقعت «الحرب على الارهاب العربي الاسلامي» قسرا على سلم اولويات الرئيس الجديد بوش، فتراجع عما اعلنه قبل شهور، ليتورط بكل قوته وعنفوان دولته الامبراطورية، ليس فقط في ملف فلسطين و«اسرائيل» بل في ملف الحرب الكونية ضد الارهاب، من افغانستان إلى العراق ثم ما يستجد، وصولا لفلسطين الذبيحة.
في هذا السياق تبنى الرئيس بوش وجهة نظر مستشاريه من مجموعة «المحافظين الجدد» أو هي المجموعة الليكودية الحاكمة في الادارة الاميركية، المتحالفة مع حكومة «اسرائيل» الشارونية. وانتهى الأمر بادانة الكفاح الفلسطيني ووصم حركة التحرير ومنظمات المقاومة بالارهاب، واطلاق يد «اسرائيل» في القتل والاغتيال والتدمير وحرب الابادة ضد الشعب الفلسطيني فضلا عن عزل عرفات في حبسه وتهميشه وزعزعة واضعاف السلطة الفلسطينية، واحراج الحكومة القديمة برئاسة محمود عباس، والجديدة برئاسة أحمد قريع ومحاصرتها حتى الذبول ثم الانهيار...
فإن كانت إدارة بوش تنحاز بهذا الشكل إلى «اسرائيل» لتصبح الإدارة الاكثر انحيازا عبر 55 عاما، فلماذا طرح الرئيس «رؤيته» في اقامة دولة فلسطينية بحلول العام 2005 الى جانب دولة «اسرائيل» ولماذا تبنى «خريطة الطريق» سياسيا واعلاميا، قبل ان يقرر تعليقها أخيرا.
يبدو ان رؤية بوش كانت مجرد «رؤية»، حلما في منام، وان «خريطة الطريق» كان هدفها وضع الفلسطينيين على نهاية طريق اليأس والاحباط والانتحار، ووضع «اسرائيل» - شارون على طريق تصفية الوضع برمته، الرؤية والحلم والوهم واليأس والحق التاريخي... و«الارهاب» المعلق على رقبة كل فلسطيني.
هكذا كسب شارون مظلة بوش، وأخذ منه سلاحه ليحارب معركة «اسرائيل» واميركا ضد الارهاب، واطلق حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وكثف الاستيطان واقام السور العازل، ولم يترك للفلسطينيين سوى الاحباط والبؤس والانفلات الأمني، ثم راح يستعين بالصديق بوش لاستخدام الفيتو في مجلس الأمن - استخدمت اميركا حق النقض (الفيتو) أكثر من 70 مرة لحماية «اسرائيل» من الادانة - ويحرضه للضغط على السلطة الفلسطينية لوقف الانفلات الأمني وتفكيك المنظمات الفلسطينية، ويطالبه بالضغط على الدول العربية، لتضغط بدورها على الفلسطينيين، كأنهم في حاجة إلى مزيد من الضغط والقهر.
وسط هذا المناخ السوداوي والمأسوي المحبط لم يعد أحد يملك ان يمنع فلسطينيا من قتل «اسرائيلي»، أو اميركي، أو حتى عربي، سواء بقصف ناري او لغم او حتى بتفجير نفسه قبل الجميع.
ثم هل يملك أحد حق توجيه اللوم أو حتى النصح والوعظ والارشاد، من بعيد إلى بعيد، لفلسطيني دمر شارون منزله وشرد عائلته، وقطع رزقه، والقاه في مصيدة اليأس والاحباط فاذا به لا يجد امامه سوى طريق الثأر والانتقام، من جلاديه!
قلنا منذ البداية، ان المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، تمنع كثيرين من انتقاد بعض التصرفات والسياسات، فالمأزوم المطحون لا يحتاج إلى مزيد من التأزيم، لكنه قد يحتاج إلى النصيحة الخالصة الصادقة، مثلما يحتاج إلى المصارحة الكاشفة في وقت الشدة، حتى لا تختلط الألوان.
ومن باب هذه وتلك، نقول إن استهداف الاميركيين أو الاوروبيين، وقتل بعضهم إن كان قد تم بيد فلسطينية خطأ يجر على القضية كلها سلبيات رهيبة، اكثر مما يحقق ايجابية واحدة، وحجة ان استهداف الاميركيين مشروع لأنهم حلفاء للاسرائيليين، لا تقنع كثيرا في هذه الظروف المعقدة!
ومن باب هذه وتلك نقول ان من أهم اسس نجاح حركات التحرير والمقاومة الوطنية، وضوح الرؤية وتحديد الهدف بدقة، أما الرؤية الفلسطينية فواضحة، لكن تحديد الهدف واساليب تنفيذه، يخضع لاجتهادات كثيرة من منظمات المقاومة الكثيرة، بل من اجنحة داخل فتح والسلطة الفلسطينية نفسها، الأمر الذي يثير الاضطراب، مثلما يترك امام «اسرائيل» فرصة زيادة الانفلات الأمني في الارض المحتلة! وفرصة استعداء باقي العالم على الفلسطينيين، بعد النجاح في استعداء أميركا عليهم.
وأخيرا من باب هذه وتلك، نقول إن الصراع الدائر بين الرفاق الفلسطينيين، على السلطة والنفوذ، بينما البيت ينهار والخيمة تحترق... أمر محزن ومحبط ومرفوض.
أما استمتاع العرب بـ «الفرجة» على الفلسطينيين، وعلى ذبحهم ذبحا من رفح إلى الجليل، فشيء خارج الوصف لانه خارج المنطق.
خير الكلام: قالوا
هذي كرامتكم مهدورة
أفليس يجري في عروقكم دم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 411 - الثلثاء 21 أكتوبر 2003م الموافق 24 شعبان 1424هـ