أسوأ ما في قرار «قانون محاسبة سورية» الذي صدر حديثا عن الكونغرس الأميركي هو السرعة الزمنية التي اتخذ فيه. فالسرعة قياسية فعلا إذا قورنت بحالات تمت خلالها مناقشة قرارات مشابهة ضد دول أخرى. صحيح أن مشروع القانون انجزت بنوده قبل ثلاث سنوات ووضع على طاولة الرئيس الأميركي قبل حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إلا أن تحريك مشروع القانون بتلك السرعة وإعادة طرحه على عجل وإقراره باجماع لم يعرفه الكونغرس سابقا يدل على وجود قوة عليا اشرفت على طبخ العملية وانضاجها على نار حامية واصدار المشروع بصيغة قانون أحيل بدوره على عجل إلى مجلس الشيوخ لاتخاذ القرار النهائي بصدده. وتشير المعلومات إلى أن مجلس الشيوخ يرجح أن يقره بسرعة أيضا وبغالبية ساحقة لا تسمح حتى للرئيس الأميركي باهمال أو تأخير العمل به.
السرعة إذا أسوأ من القرار السيئ نفسه. وهذا يدل على وجود خطة مبرمجة قضت بإدراج المشروع على جدول أعمال الكونغرس واستدعاء شهود الزور من كل «وادٍ عصا» وترتيب شهادات تنقصها الصدقية والمعلومات والوثائق الدامغة لدفع عجلة النقاش خطوات إلى الأمام ضمن حملة مدروسة تهدف في النهاية إلى رفع درجة العداء للدول العربية والمسلمة إلى مرتبة يصعب كسرها أو التراجع عنها... حتى لو غادرت الإدارة الحالية مكاتب الرئاسة في البيت الأبيض.
وأسوأ من القرار والسرعة التي أنجز بها هي تلك الدورة التصويتية التي تمت لاتخاذ القرار بشأن المشروع. فالعملية التي دارت من اللجنة إلى الكونغرس ثم مجلس الشيوخ تثير الريبة والشكوك وتطرح أسئلة استفهامية عن تلك اللوبيات (المافيات) التي باتت تسيطر على غرف الرأي العام الأميركي وتدير شئونه وفق رغبات تتعارض أحيانا مع المصلحة العليا للدولة. وأخطر ما في تلك العملية المنظمة ذاك الاجماع المخيف الذي لا يبشر بالخير. فالكونغرس تصرف بأسوأ مما تتصرف به أو ما عودتنا عليه أسوأ «برلمانات العالم الثالث» من حيث إدارة النقاش أو من حيث تدبير موافقات بالجملة والمفرق على قرار يعرف الكل مدى سلبياته على المصالح الأميركية وخصوصا أنه قد يفهم من قبل رئيس الحكومة الإسرائيلي أرييل شارون تشجيعا له على خوض مغامرات عسكرية هدد مرارا بشنها.
عادة وكما نرى حتى في برلمانات العالم الثالث نجد بعض الأخذ والرد والتجاذب في الآراء وحالات من الانقسام على موقف واحد. حتى هذه التمثيلية لم يبذل أعضاء الكونغرس جهدهم بتصويرها لشراء سكوت الرأي العام الأميركي الذي ضاق ذرعا بحروب بوش التي لا نهاية لها. حتى هذا النوع من التمثيل لم نشهده في الكونغرس مع ان العالم يتذكر نقاشات مشابهة حصلت سابقا على أنواع مختلفة من المشروعات والقوانين. حتى حين نوقش مشروع «قانون محاسبة العراق» كانت هناك وجهات نظر مختلفة وتضارب في الآراء بين الجمهوريين والديمقراطيين وأحيانا بين الجمهوريين أنفسهم والديمقراطيين أنفسهم.
الغريب في قرار «محاسبة سورية» أنه كان هناك ما يشبه الاجماع إذ لم يجرؤ على الاعتراض سوى أربعة أعضاء. وهذا بحد ذاته مسألة سلبية ليس للعلاقات العربية - الأميركية وانما أيضا للديمقراطية الأميركية والتسيير الذي باتت أسيرته مختلف الكتل في الكونغرس. فالاجماع يدل على مرض أصيبت به الديمقراطية الأميركية وهذا الفيروس يشير إلى وجود جهات خفية تقود السياسات وتسيطر عليها وتدفعها دفعا بهذا الاتجاه أو ذاك. وأغرب ما في السلوكيات المرضية للديمقراطية الأميركية أن مجلس الشيوخ ناقش مشروع قرار بإعادة إعمار العراق فقامت الكتل الديمقراطية والجمهورية تتبارى في نقد خطة الاعمار والاقتصاص منها وتوزيعها وتفريقها تحت غطاء من الحرص المفتعل على المال العام ودافع الضرائب الأميركي... في وقت يكون المجلس نفسه في غرفتيه اتخذ سلسلة قرارات بعشرات المليارات لتمويل الحرب على أفغانستان ثم العراق.
والعجب أيضا أن أعضاء المجلس في غرفتيه أخذوا في الفترات الأخيرة ينتقدون سياسة الرئيس واستراتيجية «الحروب الدائمة» والكوارث التي جلبها لأميركا والأكاذيب التي اخترعها والمبالغات التي اجترحها لتبرير حروبه العدوانية في وقت كانوا يوافقون بالاجماع على قانون «محاسبة سورية» استنادا إلى حزمة أكاذيب لا تقل في افتعالها أو تضخيمها عن تلك التي استخدمت سابقا لتبرير الحرب على العراق.
إنها فعلا حفلة أكاذيب... وأسوأ ما فيها أن هناك من يصدقها ويروج لها. والأخطر أن هناك من يستفيد منها لفتح جبهة عسكرية في منطقة لم تعد تتحمل المزيد من الحروب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 408 - السبت 18 أكتوبر 2003م الموافق 21 شعبان 1424هـ