عندما اشتدت الأزمة البلقانية في التسعينات وكاد الشعب البوسني المسلم أن ينتهي وجوده سياسيا بعد حملة التطهير العرقي التي قادها الصرب آنذاك، كان وزير خارجية البوسنة (لما كان يطلق عليه بوسنة آنذاك) يتحدث في المسجد المركزي في لندن، وكنت واحدا من الحضور الذين استمعوا للحوارات والأسئلة والأجوبة. ولكن ما بقي في مخيلتي من شخصية وزير الخارجية البوسني هو رباطة جأشه من جانب واجابته الواضحة التي تضمنت استعداد المسلمين البوسنيين للتنازل عن بعض مطالبهم المشروعة الكاملة بما في ذلك التنازل عن السيادة على بعض المناطق البوسنية لصالح الصرب واشتراكهم في السيادة مع آخرين (الكروات) على بعض المناطق البوسنية الأخرى من جانب آخر.
حينها وقف أحد المتحمسين (وكان من حزب التحرير) وألقى خطبة نارية داعيا الوزير البوسني إلى عدم التنازل ولو عن مليمتر واحد، وان المسلمين في كل مكان على استعداد للدفاع عن الديار الإسلامية...إلخ من الوصفات الجاهزة.
كان الوزير البوسني يستمع بهدوء، وأجاب على السائل المتحمس بهدوء أيضا: «لقد درسنا تجارب مماثلة واستشرنا من لهم خبرة فيها ونصحونا بالقبول بما هو مطروح أمامنا، ولذلك فإننا عازمون على التنازل عن جزء من سيادتنا وحقوقنا لكي لا تضيع البقية».
السياسة تختلف عن الجانب الفكري - النظري، إذ إن النواحي النظرية غالبا تكون صحيحة بشأن ضرورة الحصول على كل المطالب المرفوعة، وهناك دعم نظري - حقوقي لتلك المطالب ولكن السياسة تتحدث عن واقع الحال وتتحرك على أساس فهم دقيق للقوى المتحركة على الساحة واختيارالأنسب الذي يحقق جزءا أو أجزاء مما يصبو إليه هذا الاتجاه السياسي أو ذاك.
السياسة تختلف أيضا عن الحرب أو الثورة، ففي حال الثورة يتم تعطيل العملية السياسية حتى تتضح الأمور وتحسم الاوضاع وبعد ذلك يدخل الجميع الحلبة السياسية.
المشكلة تحدث عندما تختلط السياسة بالنظرية الفكرية - الحقوقية وتختلط بخطاب الثورة أو الحرب. هذا الاختلاط خطر على صاحبه لأنه سيضيع أمره بين هذا وذاك، وقد لا يحقق أيا مما كان يرفعه في أي حال من الأحوال.
الخلط في اللغة السياسية - النظرية - الثورية من أخطر ما تبتلى به بعض الجهات التي تفقد مع الأيام فاعليتها السياسية لتكرار شعارات لا تستطيع الوصول إليها ولا تستطيع إيجاد مخرج للتفاهم بشأنها وتحريك الأجندة السياسية إلى قضايا تستحق على الأقل الاهتمام ذاته. وعليه فإن اللغة السياسية لهذا الاتجاه أو ذاك محسوبة عليه، وهذه اللغة ليست فقط الصادرة عن هيئات مسموح بها رسميا ولكن أيضا عن جميع الأصوات الصادرة باسمها سواء كانت في داخل البلاد أو خارجها، أو في جمعية سياسية أو خطبة صلاة أو مهرجان أو على مواقع إلكترونية. فإما أن تكون هذه اللغة معبرة عن أكثرية الاتجاه السياسي أو انها تعبر عن الذين بيدهم مصير ذلك الاتجاه أو انها لا تعبر عن هذا أو ذاك وما هي إلا تصرفات طائشة من دون حساب.
مهما كان الواقع ممثلا للاتجاه أو للمتصدرين للاتجاه أو انها حركات عشوائية في أي اتجاه، فإن المؤكد هو عدم فائدتها وعدم قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه هذه الجماعة او تلك. والأمر الوحيد الذي يتبقى لديها هو الاقتتال الداخلي والتصفيات السياسية لهذا الطرف أو ذاك وتوجيه سيل الشتائم والسباب للتسقيط والتخوين والاتهام بالعمالة، إلى أن ينتهي الأمر إلى درجة الصفر من ناحية القدرة السياسية أو الأهمية الوطنية، وحينها لا ينفع هذا الخطاب «المختلط- الالوان» أصحابه إلا التفتيت الداخلي
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 408 - السبت 18 أكتوبر 2003م الموافق 21 شعبان 1424هـ