هل بدأت الولايات المتحدة تدويل سياستها أم تشريعها في إطار الأمم المتحدة؟ هناك فارق كبير بين «التدويل» و«التشريع» إلا أن لجوء الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن وتنازل الأخير عن بعض اعتراضاته وصلاحياته يعتبر خطوة سياسية معقدة ترمي أخيرا إلى المصالحة مع «المجتمع الدولي» ومحاولة تجميع أكبر كمية من «الأوراق» في يد واشنطن قبل أن تتخذ خطوات جديدة لتطوير هجومها الذي توقف بعد الحرب على العراق.
الولايات المتحدة عاشت فترة ستة أشهر صعبة بعد تفردها في الحرب على العراق مخالفة بذلك الشرعية الدولية وبالضد من كل النداءات التي صدرت عن دول مجلس الأمن وغصبا عن كل المظاهرات المليونية التي انفجرت غاضبة في مدن وعواصم العالم.
خلال هذه الفترة لم تتراجع واشنطن كثيرا عن سياستها بل حاولت جاهدة اختراع الأعذار التي تبرر لها سلوكها المشين في العراق وأفغانستان. وخلال هذه الفترة نفسها خسرت الولايات المتحدة الكثير من صدقيتها بعد ان انكشفت أمام العالم وظهرت الأسباب الفعلية التي كانت وراء قرار الحرب على العراق.
إلا أن الإدارة الأميركية التي عانت من الانقسامات الداخلية حاولت الالتفاف على الأزمة من خلال تحقيق سلسلة اختراقات على مختلف المستويات الاقليمية والدولية. إقليميا اتجهت إلى التصعيد في محاولة لكسر الطوق العربي وتفكيك وحدته ضد الغزو الأميركي. واتبعت في هذا المجال سلسلة خطوات هجومية ضد سورية وإيران والسلطة الفلسطينية، ودفاعية في مواجهة اعتراضات تركيا على المشاركة في الحرب. ونجحت أخيرا في استدراج أنقرة وإقناع حكومتها بالمساهمة في ضبط الأمن في المناطق الغربية من العراق. وكذلك نجحت في تصعيد الهجوم على دمشق من خلال تحريك مشروع «قانون محاسبة سورية» ودفع الكونغرس إلى الموافقة عليه بغالبية ساحقة لم تعرفها الولايات المتحدة في حالات سابقة. كذلك نجحت من خلال دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالضغط على إيران للموافقة على توقيع البروتوكول الإضافي على معاهدة الحد من التسلح النووي قبل نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
إلى سورية وإيران نجحت واشنطن في تنظيم هجومها على السلطة الفلسطينية بعد انهيار «خريطة الطريق»، وذلك بدفع ياسر عرفات إلى زاوية حادة تجعله في موقع لا يحسد عليه والاختيار بين محاربة ما يسمى «الإرهاب» حتى لو أدى الأمر إلى حرب أهلية داخلية وبين احتمال طرده من الأراضي الفلسطينية وإعادة احتلال ما تبقى من أراض غير محتلة.
دوليا لجأت واشنطن إلى اللعبة نفسها من خلال التراجع أمام اعتراضات دول مجلس الأمن وضغوطها، محاولة التكيف مع الشروط الدولية المطروحة لنيل الاعتراف باحتلالها من دون تنازل عن قيادتها للقوات الدولية أو تحديد فترة زمنية واضحة للانسحاب. وبين التقدم والتراجع توصلت الولايات المتحدة إلى انتزاع القرار 1511 بإجماع كل أعضاء مجلس الأمن، يعطي الدول الكبرى بعض ما تريده مقابل تكييف الاحتلال ضمن إطار دولي يعطي صفة الشرعية للاحتلال ويضمن للولايات المتحدة موقعها الخاص في العراق.
إنها إذا لعبة تجميع الأوراق وهي احتاجت قرابة ستة أشهر حتى تنتهي إلى سلسلة قرارات قد تشكل خطوات سياسية تستطيع الولايات المتحدة البناء عليها في المستقبل لتطوير هجومها الذي أصابه التجمد بسبب الإرباك الذي عصف بالإدارة نتيجة فشلها في العراق، وكذلك في أفغانستان.
أميركا الآن وبعد صدور قرار مجلس الأمن باجماع دولي ومن دون تقديم جدول زمني محدد لإنهاء الاحتلال وتشكيل قوة متعددة الجنسية بتفويض من الأمم المتحدة وتحت قيادتها... أصبحت في وضع مريح يسمح لها بترتيب أوضاعها الداخلية والتفرغ مجددا إلى تطوير أدوات هجومها على الدول التي ترى أنها ليست متكيفة مع معاييرها وشروطها.
مرحلة «تجميع الأوراق» انتهت تقريبا. فواشنطن تملك الآن ورقة دولية من مجلس الأمن بشأن العراق، وتملك ورقة من الكونغرس بشأن «محاسبة سورية»، وورقة من الوكالة الدولية بشأن الملف النووي في إيران... وأخيرا فإن صلتها الخاصة بـ «إسرائيل» تعطيها قوة تحريك لكل الجبهات الاقليمية المحيطة بفلسطين والعراق.
سياسة «تجميع الأوراق» هي الحد الفاصل/ والرابط بين «التدويل» و«التشريع»؛ فالتدويل هو خطوة نحو تشريع عدوانها على ما تبقى من دول عربية ومسلمة وضعتها ضمن لائحة «الأعداء»... والتشريع هو خطوة نحو تدويل هجومها وإعطاء صفة الموافقة الدولية على ما تبقى من خطوات تقع ضمن استراتيجية الحرب على ما تراه «منظمات إرهاب» أو دولا «ترعى الإرهاب».
إنها سياسة في وجه من وجوهها وبداية تأسيس حروب جديدة في الوجوه الأخرى من لعبة «تجميع الأوراق»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 407 - الجمعة 17 أكتوبر 2003م الموافق 20 شعبان 1424هـ