ما يطلق عليه الاوروبيون بعقلية «الغيتو» يمكن ملاحظة ظواهره لدينا أيضا. فاليهود الاوروبيون كانوا يعيشون في أماكنهم المعزولة ويعتقدون أن الجميع يخطط للقضاء عليهم، ولذلك فإنهم كانوا يشككون في كل شيء وتبقى عقلياتهم أسيرة لأماكنهم الضيقة ولفهمهم المنعزل عن الآخرين. عدد من يهود أوروبا ينكرون هذه العقدة، وهذا ليس مجال حديثنا. فحديثنا يركز على الظاهرة نفسها التي قد نجدها بوضوح لدى بعض من لاقى الظلم في تاريخه بحيث أصبحت كل الأمور ما هي إلا «خطة متكاملة للقضاء على وجوده»، وأن كل شيء له علاقة بهذا المخطط.
مثل هذه العقلية خطيرة على أصحابها لأن من شأنها أن تعزز مفهوم ضرورة البقاء مظلوما ومحروما، وتدعم حال عدم الثقة في أية جهة تقول إنها تود بناء جسور تفاهم، وتعزز بذلك حال الانفصال النفسي والشعور المستمر بالمظلومية، وكأنما ذلك ما كتبه الله ولا يمكن الخلاص منه إلا بالثورة أو الصبر السلبي أو الموت والانتقال إلى الآخرة.
على أن تاريخ البحرين لا يعطينا هذا الفهم، بل أن العاصمة (المنامة) تعتبر من أفضل الأمثلة في منطقتنا تعبيرا عن التنوع في كل شيء. وفي بحث جامعي لإحدى الباحثات (من إيطاليا) تحدثت عن تشكيل المنامة وأحيائها وأهلها وكيف برزت المدينة قبيل منتصف القرن التاسع عشر بشخصية متنوعة ومتعايشة فيما بينها، على رغم كل الحوادث التي يذكرها التاريخ. ويكفي أن ندرس اسماء أحياء المنامة وقربها من بعضها الآخر لنرى كيف استحقت هذه المدينة دراسة دكتوراه من إحدى الباحثات. فالمنامة عرفت جميع الأنواع الذين عاشوا وتعاملوا فيما بينهم، بما في ذلك «الهنود» الذين كان يطلق عليهم اسم «البانيان». فهؤلاء كانوا تجارا يسافرون بين الهند والبحرين وكان البحرينيون يفضلون التعامل معهم لما عرف عنهم من الاستقامة على رغم عدم وجود شيء مكتوب عندما يتفقون على شيء مع التجار الآخرين.
تاريخ البحرين خارج المنامة يتحدث ايضا عن التنوع في ازمان سابقة ويتحدث عن الاندماج وعن الانفتاح. والبحرينيون كانوا يسافرون ويعيشون في مناطق خليجية اخرى وينقلون معهم سمات المجتمع المنفتح الذي لا يعرف إلا العمل الجاد من أجل الرزق الحلال. وهناك الآن بحرينيون يعيشون في مناطق قريبة من البصرة (القصبة مثلا) وفي المحمرة وفي بندر لنجة، هذا بالاضافة إلى التواصل المستمر مع شرق الجزيرة العربية، حيث الاسماء ذاتها للعوائل وحتى المناطق (سنابس مثلا توجد في البحرين وفي السعودية).
المجتمع الذي يتعايش مع الآخرين ينبغي أن يكون بعيدا عن عقلية «الغيتو» التي نشاهد مظاهر منها في عصرنا الحاضر. ان مثل هذا الحديث يحثنا على السعي للتعايش التعددي من دون ضرورة للشعور بعقدة «المظلومية الدائمة». فمهما كانت هناك من حقائق لمثل هذه المظلومية فإن الزمان يتحرك إلى الأمام وكل شيء قابل للتغيير والتطوير ولكن شريطة عدم اجترار الماضي بأسلوب يبعث على اليأس.
أن من أهم ما يحصل عليه المرء الذي يتخلص مع عقدة «الغيتو» هو الانفتاح على المستقبل مع توقع الأفضل والسعي من اجل الافضل. أما على الطرف الآخر فإن الذي لا يستطيع الخروج من تلك العقدة فتبدو له الدنيا كلها ظلاما في ظلام ويبدو الآخرون مجموعة من الأعداء الذين يتربصون به. ولا يكتفي بهذا الشعور بل يبدأ من يصاب بهذه العقدة التشكيك في من معه ويتهمهم «بالعمالة» للآخرين الذين يخططون ضده، ولا تنتهي هذه الدائرة المغلقة لانها مغلقة تقضي على صاحبها قبل أن تقضي على اي طرف آخر
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 407 - الجمعة 17 أكتوبر 2003م الموافق 20 شعبان 1424هـ