العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ

التحوّل التركي وانعكاساته الخطيرة إقليميا

لماذا قررت أنقرة تغيير مواقفها؟

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

في رسالة للخبير في القانون الدولي يوهان كاسبر، ارسلها القائد الالماني الشهير، هلموت فون مولتكه في 11 ديسمبر/ كانون الاول 1880، يقول فيها: «إن السلم الدائم، هو من الاحلام، والتي ليس من الضروري ان تكون أحلاما جيّدة. إن الحرب هي جزء اساسي من نظام الله للكون. ومن دون الحرب، سيتحوّل العالم إلى مستنقع من الماديّة المطلقة». في الإطار نفسه، صنف المفكّر الاستراتيجي، كارل فون كلوزفيتز الحرب على انها، السياسة بوسائل أخرى. إنها صراع إرادات، يسعى فيها فريق من المتصارعين إلى فرض إرادته على الفريق الآخر، لاجباره على تنفيذ ما لا يريده. كذلك الامر، يشدّد كلوزفيتز على أن الحرب ليست عملا مستمرّا في الزمان والمكان. لا بل هي متقطّعة، تستلزم التوقّف من قبل البُعد السياسي، طالما هي الشكل الآخر لهذه السياسة. والهدف من هذا التوقف، هو طبعا لقياس مدى نجاح استعمال العنف لتحقيق الهدف السياسي، وإذا ما كانت هناك ضرورة لتعديل الاستراتيجيّة.

أين العرب و«إسرائيل» من هذه المعطيات؟

على رغم خروقات سياسيّة سلميّة بين العرب و«إسرائيل»، من وقت لآخر. لا يزال بُعد القوّة هو المسيطر كوسيلة وحيدة للتعامل بينهما. ولا يزال الاثنان، يتعاملان فقط عبر الوسيلة العنفيّة. ولم تكن المحطّات السلميّة التي تأسّست بين الاثنين، إلا نتيجة لظروف دوليّة واقليميّة. وكأنها، شكّلت فترات من الراحة مؤقّتة، بانتظار التحضير للجولات العُنفيّة القادمة عندما تسمح الظروف. ويعيدنا هذا الامر إلى مفهوم الزعيم الشيوعي لينين، من ان السلم هو مرحلة سياسيّة من مراحل الصراع، بانتظار الحرب. بمعنى آخر، وحسب لينين، لا وجود لما يسمّى بالسلم. فالثورة، ثورة مستمرّة.

كان مؤتمر مدريد، لان الاتحاد السوفياتي كان قد سقط. ولان اميركا اخذت الامور الدوليّة على عاتقها. ولان العرب شعروا انهم مكشوفون دوليا، وان درجة معطوبيّتهم اصبحت مرتفعة جدّا. ولأن «إسرائيل» شعرت ايضا، ان هناك نافذة ممكنة، يجب الاستفادة منها لفرض السلم على العرب وهم ضعفاء. وبالتالي الدخول إلى المنطقة من خلال الاتفاقات السلميّة، وتحقيق ما عجزت عن تحقيقه من خلال الحروب والعنف.

كذلك الامر، وقّع ابوعمّار اتفاق اوسلو وعاد من شتاته إلى الارض المحتلّة. تنفّس العالم والعرب الصعداء، وقبلوا بما اراده ابوعمّار. فإذا ما اراد ربّ البيت وصاحب القضيّة هذا الحل. فلماذا يريد الآخرون وضع العقبات؟ حتى اوسلو بدا بعد فترة وكأنه محطّة راحة، ارادها المتصارعون بهدف التحضير للمعارك المقبلة.

إن المراقب لما يجري في العالم بشكل عام، وفي منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص. لابد له أن يلاحظ، أن هناك تحوّلات كبرى قد طرأت. وهذه التحوّلات الكبرى، قد تؤسّس لتغييرات جذريّة في المنطقة. وعندما نقول تحوّلات كبرى، فإننا نعني تحديدا ما يقوله الاميركي، ما ينفّذه، أو ما يسمح للحلفاء بتنفيذه. فبعد تعيين مستشارة الأمن القومي، كوندليزا رايس مسئولة عن إدراة شئون افغانستان والعراق، واستياء رامسفيلد لانه لم يُستشر. أتى الاعتداء الاسرائيلي غير المبرّر على سورية في عمقها الداخلي. كذلك الامر، أوحى شارون انه سيستدعي الاحتياط للحشد على الجبهة اللبنانيّة. وأخيرا وليس آخرا، أتى التحوّل التركي الاستراتيجي الكبير فيما خصّ مساعدة اميركا في العراق. فماذا عنه؟

قبيل الحرب على العراق، عرفت تركيّا حسنها فتدلّلت على اميركا، وذلك عندما مانعت استعمال اراضيها لخوض الحرب. فهي وبطريقة ديمقراطيّة، رفضت الطلب الاميركي، وذلك لاسباب قوميّة عليا. وهي - أي تركيّا - رفضت أيضا المساعدات الماليّة، على رغم انها في وضع مالي سيئ، جدّا. وشمت البعض باميركا وقتها، بانها تتحمّل نتيجة ما تبشّر به، أي الديمقراطيّة.

ولان اميركا دولة عظمى، استطاعت وبسبب ما تملك من ليونة استراتيجيّة من نقل مركز الحشد من الشمال العراقي، إلى المسرح الكويتي. وهي لم تتأثّر ابدا بنتيجة الحرب. فالحرب انتهت بحوالي 21 يوما فقط. حتى ان الشمال، لم يكن مسرحا حربيّا بكل ما للكلمة من معنى. إذا سقطت المقولة التركيّة والتي كانت تقول، «لا حرب اميركيّة على العراق، من دون تركيّا». فالواقع يعاكس تماما هذه المقولة.

بعد الحرب، سيطرت اميركا على العراق بشكل كامل. وبدت تركيا وكأنها لاعب على الهامش العراقي، وخصوصا أن لها تاريخيّا دورا مهما في تلك المنطقة. بعد الانتصار الاميركي السريع، انتقل العراق إلى فوضى لم يكن يحسب لها احد حساب. وظهرت المقاومة ضد الاحتلال. وبدت اميركا وكأنها في ورطة كبيرة. واصبح العراق ساحة الصراع الاساسيّة بينها وبين الارهاب. وراحت اميركا تبحث عن من يساعدها في تحمّل العبء. رفض الكل، لانها كانت قد تفرّدت في قرار ذهابها إلى الحرب. ورفض الكل، لان اميركا تريد من يقاتل، لكن تحت رايتها. تريد من يقاتل، لكن بثمن تدفعه هي وحسب، وعندما تريد.

في 7 أو كتوبر/ تشرين الأول 2003، وافق البرلمان التركي على طلب الحكومة بإرسال قوات تركيّة إلى العراق، حوالي 10000 جندي، ضمن قوات خاصة، ولمدّة سنة واحدة. كانت نتيجة التصويت كالتالي، 358 مع، 183 ضدّ، سبعة نواب لم يشاركوا. في هذا الوضع، انقلب المفهوم السابق، حول عدم امكان الحرب من دون تركيّا. إلى ضرورة اميركيّة مُلحّة للمساعدة التركيّة العسكريّة. فأصبحت المقولة كالتالي، «لا سلم واستقرار في العراق، من دون المساعدة التركيّة». وهذا فعلا ما تبحث عنه الادارة الاميركيّة.

بماذا تستفيد تركيا؟

- ربطت اميركا منح تركيا المساعدة الماليّة والمقدّرة بـ 5,8 مليارات دولار، بقبول تركيا إرسال قوات عسكريّة إلى العراق. وبما ان اميركا في ورطة عراقيّة، فإنه يمكن لتركيا سحب المزيد من هذا المساعدات في المستقبل.

- بحسب وزير الخارجيّة التركي عبدالله غول، لا يمكن لتركيا ان تقف متفرّجة على جار تعمّه الفوضى. ولا يجب ان نسمح للفراغ في العراق، من ان يتحوّل إلى مرتع للارهابيّين.

ويضيف وزير الخارجيّة التركي، ان امن انابيب النفط مهمّ جدّا لتركيّا. ويجب الحفاظ على أمنها.

أما رئيس الوزراء التركي أردوغان، فيوسّع البيكار ليتحدّث عن عمليّة تشكيل «الشرق الاوسط» الجديد. وعلى تركيا ألا تكون خارج عمليّة التكوين. فالغائب هو خاسر دائما، خصوصا عند التحوّلات الكبرى.

وأخيرا وليس آخرا، لا يمكن لتركيا ان تكون خارج إعادة تكوّن العراق الجديد بعد سقوط نظام صدّام حسين. فالخطر الكردي على امنها لايزال جاثما. فبوجودها في العراق عسكريّا، يمكنها التأصير مباشرة في عمليّة مستقبل العراق.

لماذا تركيا مهمّة لأميركا؟

- عدا انها حليف عضو في حلف الأطلسي (الناتو). يلعب التاريخ والجغرافيا دورا اساسيّا في ما يجري. لتركيا تاريخ تعاون طويل مع اميركا خلال الحرب الباردة. وهي كانت ضمن منظومة استراتيجيّة الاحتواء للاتحاد السوفياتي. وبحكم تقاربها الجغرافي مع العراق، كان لابد من ان تشكّل اهميّة لاميركا، خصوصا في الوقت الحالي.

هناك تجانس عملاني بين القوات الاميركيّة والتركيّة. حتى انهما يقاتلان بالعقيدة والاسلوب نفسيهما. وهما لديهما العتاد العسكري نفسه. وإن هذه الامور تسهّل العمليات العسكريّة وتخفّف من التناقضات كثيرا. هذا عدا العلاقة الطيّبة بين الضباط الاتراك والاميركيّين. فاميركا ومعاهدها العسكريّة كانت دائما، ولا تزال مفتوحة للضباط الاتراك.

تعتبر تركيا دولة مسلمة علمانيّة. وإذا ما كان لديها عسكر على الارض العراقيّة، فإن هذا الامر قد يشجّع دول إسلاميّة أخرى على المشاركة. تندرج باكستان في هذا التصنيف. فتركيا مثلا، كانت اول من ارسل جنود إلى افغانستان، حوالي 90 جنديا.

تريد اميركا قوّة عسكريّة على الارض، لكن فاعلة عملانيّا. وهي تريد ان تقاتل هذه القوات، وألا ترحل بعد سقوط أول قتيل لها. وتركيا تدخل في هذا التصنيف. فهي مجاورة جغرافيا، ولها مصالح في العراق، وسوف لن تخرج عند اول طلقة. وهي ايضا، لها تجارب عسكريّة على الارض العراقيّة. وهي حتما غير القوات البولنديّة مثلا. والتي تبعد عن موطنها آلاف الاميال.

تريد اميركا تسليم «المثلث السنيّ» لقوّات سنيّة، لضبط الاستقرار فيه. وهذا فعلا ما يعكسه اختصاص الفرقتين المزمع إرسالهما، واللتان كانتا تلقتا تدريبات خاصة على قتال العصابات والمقاومة. وفي الوقت نفسه، تسلّم اميركا الشيعة في الجنوب نوعا من الحكم الذاتي.

بعد ان تركن اميركا إلى الوضع العراقي، مع الاتراك. فمن الطبيعي جدّا أن يبدأ تقليص عدد الجنود الاميركيين هناك. بذلك يخفّ الضغط على الادارة. وتستطيع اميركا بعدها، متابعة مشروعها الاكبر في المنطقة بعد ان كانت المقاومة عطّلته.

ما سلبيّات القرار التركي؟

- تذهب تركيا إلى العراق دون قرار من المرجعيّة الدوليّة، كما فعلت اميركا.

قد يثير قرار تركيا إرسال قوات عسكريّة، ريبة الدول المجاورة للعراق. تندرج سورية في هذا الاطار، كالخاسر الاكبر. ويصبح مفهوم السيادة بشكل عام من دون معنى. فمن جهّة تنتهك «إسرائيل» السيادة السوريّة من دون محاسبة. ومن جهّة أخرى، تصوّت تركيا على إرسال جنود إلى بلد مجاور، من دون ان يطلب هذا البلد ذلك منها، ومن دون موافقة ايّة شرعيّة دوليّة.

قد يشجّع هذا الامر - أي دخول قوى عسكريّة إلى دولة مجاورة - من دون إذن رسمي من هذه الدول. ومن دون إذن من الشرعيّة الدوليّة. إلى دخول أيّة دولة إلى اراضي دولة أخرى، وذلك تحت حجّة المحافظة على الامن القومي.

قد يؤدّي هذا الدخول إذا لم يكون مضبوطا من قبل العم سام، إلى التصادم التركي الكردي، وبالتالي إلى زرع الفوضى بدل الاستقرار. فيُضاف بذلك مشكلة إضافيّة على اميركا، تقوم على التوفيق بين الحلفاء.

قد يؤدّي دخول القوات التركيّة إلى العراق، إلى أزمة سياسيّة تركيّة داخليّة، وذلك في حال سقوط الكثير من القتلى الاتراك.

وأخيرا وليس آخرا، سيؤدّي الدخول التركي إلى خلل في ميازين القوى الاقليميّة، بين كل من، تركيا، إيرن وسورية، ولصالح تركيّا. وهذا امر كان قد تجنّبه الرئيس بوش الاب العام 1991، عندما عزف عن الدخول عسكريا إلى العاصمة بغداد. فهل ستعود الجمهوريّة التركيّة إلى لعب دور «الامبراطوريّة» السابقة، لكن على الصعيد الاقليمي، وتحت إشراف العم سام؟ وهل ستتبع إيران الباب العالي في تحوّله الخطير؟ الجواب في عهدة المستقبل. فلننتظر

العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً