الغارة الاسرائيلية على سورية وضعت ما يسمى ازمة «الشرق الأوسط» على درجة عالية من الغليان. فصورة الوضع الآن بدأت بالتغير بعد ان أوصل رئيس الحكومة الاسرائيلي ارييل شارون التوتر إلى نقطة أعلى من المرحلة السابقة، وهذا يعني ان أية اضافة جديدة قد تدفع الأزمة إلى مسافة ترشح احتمال المواجهة بأساليب غير متوقعة.
حتى الآن تميل سورية إلى الدبلوماسية كوسيلة من وسائل كشف تلك الصلة بين الاحتلال الاسرائيلي وموجات العدوان التي يكررها شارون ضد الفلسطينيين واحيانا ضد لبنان وأخيرا دمشق. فالنشاط الدبلوماسي السوري والدعاوى المتتالية ضد «اسرائيل» في مجلس الأمن وغيرها من خطوات واتصالات مع الدول الكبرى تهدف في النهاية إلى كشف النوايا الدولية ومدى التزام القوى المعنية بالازمة بسياسات كانت تشكل نقاط توازن للموقف الدولي من الأزمة. فالغارة كانت مناسبة للاختبار واعادة اكتشاف لحدود دور كل دولة من الازمة عموما انطلاقا من موقفها الخاص من الغارة. كذلك جاءت الشكوى العربية (السورية) في موضوع «الجدار الأمني» العنصري الذي تشيده تل ابيب داخل الضفة الغربية وقطاع غزة وحول كل مستوطنة في مناطق الاحتلال. فالشكوى ايضا تشكل الوجه الآخر للغارة وتهدف ايضا إلى اجراء اختبار للنوايا الدولية وتحديدا الاميركية من اتجاهات الرياح الساخنة في المنطقة. وهذه هي الأهمية الاساسية لمثل هذه الشكاوى.
الولايات المتحدة تحاول دائما الادعاء بأنها غير قادرة على الضغط على «اسرائيل» وتتحايل على الدول العربية بالقول انها ترفض هذه السياسة أو تلك الصادرة عن تل ابيب... ولكنها، وهذه هي الكذبة، لا تستطيع ان تفعل شيئا لوقف شارون عند حد معين. هكذا قالت واشنطن بالنسبة إلى «خريطة الطريق» والمستوطنات والجدار العنصري وكررت الأمور نفسها في الكثير من المواقف والمسائل. الآن وفي اطار الشكاوى المتتالية انكشف الكذب، واتضحت الكثير من الخطوط السياسية الاميركية. ففي الأمم المتحدة ومجلس الأمن لا مجال للاحتيال والمراوغة والمناورة. فواشنطن مضطرة إلى تصويت بنعم أولا... أو عدم التصويت. كذلك فهي مضطرة إلى تبرير أو تفسير كل موقف تلتزم به امام الدول الكبرى في مجلس الأمن أو امام العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي هذا الصدد يمكن رصد عشرات القضايا التي كانت الولايات المتحدة تدعي فيها الاختلاف مع «اسرائيل» تبين من خلال جلسات مجلس الأمن انها لا تختلف عنها كثيرا. واحيانا كانت اميركا تظهر امام العالم بأنها «اسرائيلية اكثر من اسرائيل». المواقف الاميركية التي اتخذت في السنوات الثلاث الأخيرة كشفت عن تلاصق سياستها مع توجهات شارون وعدم اختلافها معه حتى في تلك النقاط التي كانت الدول الكبرى (والعربية ايضا) تظن انها تشكل خطوط افتراق عن الاستراتيجية الشارونية. وأية مراجعة للسجل الاميركي في مجلس الأمن وقراراته ومناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة تكشف ان الكثير من المواقف التي اتخذتها واشنطن جاءت معاكسة لتصريحات بعض مسئوليها أو ما كانت تدعيه إدارة البيت الابيض من اختلاف مزعوم مع تل ابيب.
النشاط السوري الدبلوماسي (والشكاوى المتتالية) الذي اعقب الغارة أسهم كثيرا في ازالة الغبار عن العيون وظهرت الحقائق على الأرض من دون «رتوش» سواء من ناحية الجانب الفلسطيني (ارسال قوات دولية للمراقبة، المستوطنات، الجدار الأمني، تطبيق خريطة الطريق) أو من ناحية الجانب العربي (الاعتداءات المتكررة على لبنان، والغارة الأخيرة على سورية... واخيرا إعادة طرح موضوع الجدار). لا شك في ان إعادة اثارة مثل هذه النقاط مجددا على مجلس الأمن مسألة مفيدة سياسيا ودبلوماسيا... لأن مواقف الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة تسهم في ترسيم الخطوط والحدود وتكشف إلى حد كبير مستوى الخداع وحقيقة مواقف واشنطن من مسائل تدعي لفظيا انها لا تعكس النوايا الاميركية... ولكنها لا تستطيع اتخاذ التدابير الميدانية لوقفها.
حبال الكذب في مجلس الأمن قصيرة... فالمناقشات وصوغ القرارات والتصويت عليها أو عدم التصويت يقلل كثيرا من المناورات والاحتيال والمراوغة. وهذا ما تريده الدبلوماسية السورية (العربية) من وراء تسجيل الشكاوى ودعوة دول مجلس الأمن إلى التصويت عليها واحدة بعد اخرى. فامتناع اميركا عن ادانة الغارة الاسرائيلية على سورية كشف امام العالم أن قرار الغارة تم بعلم الولايات المتحدة... وعدم التصويت على جدار شارون الأمني - العنصري كشف عن حقيقة ذاك الاختلاف المزعوم بين واشنطن وتل ابيب. وكذلك يمكن القول عن مختلف النقاط سواء تلك المتعلقة بالاحتلال أو الانسحاب أو المستوطنات أو ارسال قوات دولية للمراقبة على خطوط «الدولتين» في فلسطين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 401 - السبت 11 أكتوبر 2003م الموافق 14 شعبان 1424هـ