منذ اليوم الثاني بدأ الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما اتخاذ خطوات نظرية تكشف عن وجود خطة عامة تخالف تلك الاستراتيجية الهجومية - التقويضية التي اعتمدها تيار «المحافظين الجدد» في عهد إدارة جورج بوش.
الخطوات التي أعلن أوباما عزمه على اتخاذها لم تتحول حتى الآن إلى سياسة عملية ولكنها في إطارها العام تؤشر إلى استعداد الإدارة الجديدة على إعادة النظر بالكثير من المفاصل والمحطات التي دخلتها واشنطن ضد المنطقة العربية - الإسلامية منذ العام 2001.
حتى الآن يمكن القول إن الرئيس أوباما أعطى توجيهاته باعتماد خطة تعتمد على ثلاث خطوات: الأولى، تجميد الهجوم الأميركي ووقف استراتيجية التقويض (الضربات الاستباقية والحروب الدائمة). الثانية، إعادة ربط ملفات «الشرق الأوسط» في سياق مشترك ومتتابع بناء على توصيات تقرير بيكر - هاملتون الذي صدر رسميا في العام 2006. والثالثة، إرسال إشارات سريعة تظهر استعداد واشنطن على تصحيح منهج التعامل مع الدول العربية والمسلمة انطلاقا من مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
هناك إذا فرصة للدول العربية والمسلمة للتفاوض وربما التصالح على الحد الأدنى بعد سنوات من التهديد والوعيد. الفرصة قد تكون تاريخية ونادرة ولا تعوض لكون الولايات المتحدة تمر الآن في فترة مراجعة ومحاسبة ومكاشفة ومصالحة تفسح المجال لإعادة قراءة الملفات وترتيبها بما يتناسب مع المشروع العربي الذي يعطي أولوية للقضية الفلسطينية. فالرئيس أوباما سارع إلى تكليف جورج ميتشل بمتابعة ملف التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي، وتكليف ريتشارد هولبروك بمتابعة الملف الأفغاني - الباكستاني ما يعني أن واشنطن قررت استكمال خطواتها في إطار تصحيحي يخالف سياسة القوة التي اعتمدها بوش في ولايته.
انتقال الولايات المتحدة من مرحلة دبلوماسية القوة إلى مرحلة قوة الدبلوماسية يشكل بحد ذاته علامة فارقة وربما مفارقة عن تلك السياسة التدميرية التي شهدتها المنطقة العربية - الإسلامية في السنوات الثمان الماضية. والمفارقة المتوقعة يمكن ضبط إيقاعها من خلال متابعة الخطوات الثلاث: التجميد، إعادة الربط، والتصحيح. وفي حال استكمل أوباما خطواته تلك بخطة عملية تعتمد على آليات مبرمجة ومسيطر عليها فمعنى ذلك أن هناك الكثير من المتغيرات الدولية والإقليمية سيشهدها «الشرق الأوسط» الكبير أو الصغير في الفترة الانتقالية المقبلة.
هذا التوقع النظري يمكن ملاحظته عمليا من خلال رؤية تلك القرارات التي وقعها أوباما في اليوم الثاني من دخوله البيت الأبيض وما تعنيه من تداعيات تقوض بهدوء استراتيجية الهجوم الأميركية. فالرئيس الجديد بدأ يومه باتباع سياسة اقفال الملفات. فهو قرر اقفال معتقل غوانتنامو في كوبا لكونه يرمز إلى مرحلة اتسمت بالتوحش والثأر والانتقام من دون احترام للقوانين الدولية والشرائع الإنسانية وأصول المحاكمات. وهو قرر اقفال موضوع النقاش بشأن المدة الزمنية للانسحاب الأميركي من العراق المحتل لكون المسألة تتصل بقرار اتخذته إدارة بوش بالضد من الأمم المتحدة وتفردت به على رغم الاعتراضات الدولية. وهو أيضا قرر وقف النقاش بشأن ملف الإرهاب وحصره في أفغانستان وعلى حدود باكستان معطيا فرصة للتفاوض قبل التورط في حرب جديدة قد تسهم في خلط الأوراق وكسر المعادلات. كذلك قرر إعطاء أولوية للشأن الفلسطيني من خلال إجراء مكالمات مع القوى المعنية مباشرة بملف السلام والتفاوض.
قوة الدبلوماسية
كل هذه الإجراءات النظرية تحتاج إلى فترة زمنية لظهور نتائجها الميدانية، ولكنها في مجموعها العام يمكن ترتيبها في سياق التجميد وإعادة الربط والتصحيح. ملف معتقل غوانتنامو مثلا يتصل مباشرة بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وما خلفته من تداعيات أميركية داخلية ودولية. وتكليف هولبروك بمتابعة ملف التفاوض بشأن امتدادات «الارهاب» وحلقاته مع كابول وإسلام آباد يؤكد على رغبة أوباما في إنهاء المشكلة سلميا قبل التورط في حرب مجهولة وغير مضمونة النتائج. وإسراع أوباما في دعوة القيادة العسكرية للاجتماع في البيت الأبيض والبدء في بحث خطوات الانسحاب المدروس من العراق يشير إلى رغبة في التخلص من أزمة ساهمت في عزل الولايات المتحدة وفضحها دوليا. كذلك يمكن قراءة تلك الاتصالات والمكالمات التي أجراها مباشرة مع السلطة الفلسطينية والقوى الإقليمية المعنيّة بالمسألة لكون تكليف ميتشل لا يخرج عن سقف مشروع التفاوض ويؤكد مجددا تلك القواعد الدبلوماسية التي تم التوافق عليها في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون.
ترتيب أوباما للملفات (العراق، أفغانستان، فلسطين) في «الشرق الأوسط» يأتي الآن في سياقين: الأول، تجميد مشروع التقويض الأميركي والدخول في مرحلة التفاوض على الملفات الساخنة.
الثاني، إعادة ربط الملفات وضبطها في إطار وحدة حلقات السلسلة حتى لا تسقط الإدارة في وهم الأولويات.
وحدة حلقات السلسلة وترابطها يعني نظريا أن أوباما يعتبر كل الملفات تتمتع بصفة الأولوية. افغانستان أولوية، العراق أولوية، فلسطين أولوية، حتى التفاوض مع دول الجوار (العراق وفلسطين) أولوية. وكل هذه «الأولويات» تعكس في النهاية ذاك الهاجس الذي يدفع الإدارة الجديدة للخروج من المطبات التي ساهمت استراتيجية التقويض في إنتاجها على مدى السنوات الثماني الماضية.
الخروج من المطبات لا يعني بالضرورة خروج الولايات المتحدة من منطقة «الشرق الأوسط» الاستراتيجية والغنية والواعدة. فهذا الاحتمال مثالي وليس واردا في الأمد المنظور إلا أن المرجح أن أوباما اتخذ قرار تدوير الزوايا وتبريد الملفات الساخنة والدفع باتجاه التفاوض الدائم مقابل وقف الحرب الدائمة... أي أن واشنطن بدأت مرحلة قوة الدبلوماسية بدلا من دبلوماسية القوة.
إلغاء مفاعيل دبلوماسية القوة يطرح السؤال عن المدة الزمنية التي يمكن أن تأخذها فترة قوة الدبلوماسية؟ هناك مواقيت مختلفة أخذت تظهر على شاشة البيت الأبيض السياسية. معتقل غوانتنامو أعطي مهلة سنة لإقفاله نهائيا. ملف العراق أعطي مهلة 16 شهرا قابلة للتمديد لإنهاء تفاعلاته وتداعياته. ملف افغانستان - باكستان أعيد فتحه على سكة التفاوض لا توسيع الحرب وهذه نقطة إيجابية تظهر استعداد واشنطن للتجمع والانسحاب بدلا من التورط والانتشار. ملف فلسطين هو الوحيد الذي يبدو أنه مرشح للانفتاح على احتمالات غير مضمونة النتائج في اعتبار أن «إسرائيل» تنتظر انتخابات في 10 فبراير/ شباط المقبل وحكومتها حتى الآن تقف على تقاطع طرقات بين الحرب والسلام.
هناك الكثير من الملاحظات التي يمكن اعتمادها لتصويب خطوات أوباما في يومه الثاني من الرئاسة إلا أن الواضح منها حتى الآن يكشف عن وجود توجه عام يخالف تلك الاستراتيجية الهجومية - التقويضية لتيار «المحافظين الجدد»، وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من المكاسب التي توضع عادة في خانة الحسنات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2332 - الجمعة 23 يناير 2009م الموافق 26 محرم 1430هـ