إذا افترضنا جدلا ان الفترة التي قضاها المجلس في العمل النيابي منذ الدورة الأولى للفصل التشريعي الأول قصيرة، وإذا ما اخذنا بالاعتبار تغييب الحياة البرلمانية والرقابة الشعبية الذي استمر ثلاثة عقود متتالية منذ 1973، سادت فيها ثقافة عدم التعامل مع الآخرين، والاكتفاء بالآراء الاحادية واقصاء الرأي الاخر. فإن الحيز المتاح لقياس اداء المجلس ضئيل جدا لقصر مدة الممارسة، وحاجة النواب لصقل الثقافة الديمقراطية القائمة على المناورة السياسية والمبادرات الحية. ليس هناك شك بل انا على يقين ان المقومات القانونية لتقييم اداء النواب ليست متوافرة حاليا، لغياب النشاط البرلماني المتمثل في التكتل النيابي، المبادرات الشخصية، اللوبي البرلماني، أجهزة المراقبة البرلمانية والبحوث والدراسات البرلمانية. مشكلة عدم التجانس ربما مردها إلى مشكلة عدم القدرة على التكتل البرلماني لغياب معظم التيارات السياسية عن البرلمان أو الشكل الحزبي للتكتل، وكثرة المستقلين الذين لا يحملون في جعبتهم برنامجا سياسيا أو حزبيا واضحا يشكل عائقا أخر للعمل النيابي. وبما ان المجلس النيابي الحالي لا يمثل كل القوى السياسية الموجودة على أرض الواقع أي لا يمثل رأي الغالبية، يبقى موضوع المشاركة أو المقاطعة امرا طبيعيا مرت به الكثير من الدول.
شفافية الممارسة الديمقراطية تؤكدها نزاهة عملية الاقتراع الانتخابي السلسة، ولكن هذا لا ينفي حقيقة وجود قصور واضح في تطبيق المعايير الدولية. خبراء السياسة الدولية والدساتير يعتبرونها الحد الأدنى الممكن قبوله في عمليات تطبيق المعايير الديمقراطية للدول التي ليست عريقة بالتقاليد والمفاهيم الديمقراطية.
عدم تعامل القوى السياسية الرئيسية ذات القاعدة الشعبية مع البرلمان، لا يعني الحكم على أعمال المجلس النيابي بالفشل. هذا الاعتقاد السائد لا يمس الحقيقة بصلة، اقطاب الجمعيات الأربع المعارضة تؤكد أن لديها مرئيات وتصورات للمعارضة السلمية بقصد تطوير العمل بالدستور المعدل لكي يتناسب ومرحلة الانفتاح السياسي بقدر أكبر من الشفافية في تطبيق المفهوم الديمقراطي، تصورات القوى المقاطعة تعززها رغبتها الثابتة في عقد مؤتمر شعبي دستوري لإصلاح ادوات الدستور لتطبيق ديمقراطية جدية، المعارضة ترى ان البرلمان الحالي، غير قادر على تحريك الملفات الساخنة أو اتخاذ قرارات مصيرية لصالح المواطن البحريني، وان الدستور بشكلة الحالي يشل من قدرته على احداث تغيير ملموس بحكم القيود الملتفة حوله. وفي المقابل فان تقديم مشروعات برغبة، واستجواب الوزراء، وطرح الملفات الساخنة التي تثار داخل البرلمان، كالبطالة والتجنيس وإصلاح الوضع الاقتصادي والاحوال المعيشية للناس، وتوفير السكن الملائم والحياة الكريمة بتيسير القروض للعامة، وتجريم ممارسات التمييز الطائفي، والمحسوبية في التعيين، وإعادة موظفي الدولة المفصولين عن العمل أو تعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم، وفصل السلطات، ملفات في تقديرنا اساسية لكسب أعضاء المجلس الصدقية الشعبية وبناء الثقة بين المجلس والشعب. كما ان طرح قضايا مصيرية على نطاق البحث بهذا الشكل مؤشر ايجابي على جدية الطرح والمسعى، وصدقية اداء النواب الذين يتوقع منهم الناخبون نتائج حتمية تؤكد نجاحهم.
الواقع المعاش يؤكد أنه مهما تكن وجهة نظرنا في مستوى وثقافة المرشحين أو النواب الذين تمكنوا من الوصول إلى البرلمان، فان هؤلاء قانونيا وصلوا فعلا بانتخاب مواطنين مارسوا حقهم الدستوري والشرعي في اختيار ممثليهم. صحيح ان الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها ان معظم المرشحين استغلوا ظروف مقاطعة القوى السياسية الفاعلة للانتخاب لتحقيق مكاسب انتخابية، بالطبع لا يمكن ان يكتب لهؤلاء الحظ في النجاح لو شاركت المعارضة في الانتخاب، حتى ان بعضهم استغلوا الفراغ في بعض الدوائر الانتخابية ليفوزوا بالتزكية. ويبقى الاساس في المسألة في ان احترامنا للمنتخب هو احترام لارادة ناخبيه الذين صوتوا له بالدرجة الأولى. ليس هناك مقياس آخر لاظهار احترامنا لحق الناس وحريتهم سوى احترام خيارهم مهما تكن وجهة نظرنا حيالهم. القانون الدولي أكد أن حرية الاختيار من الحريات الاساسية للمواطن لكفالة حقيقة المدنية. وان رأي صندوق الاقتراع هو اداة القياس الحقيقية والاهمية التي تحظى باحترامنا كشعب واعٍ متحضر مدرك لحقوقه المدنية.
واذا كان هناك جدل واسع في الاوساط الشعبية يؤكد أن البرلمان ضعيف وضعفه من ضعف النواب انفسهم بسبب ضعف مبادرتهم، فان هذا لا يعني بأن حال اللامبالاة تمكنت من جميع النواب. فقد لاحظنا بكل تقدير صدقية وجدية حركة بعض النواب المشهورين بنشاطهم المتضاعف ومبادرات الوطنية الرائدة لتحقيق تغيير في الاسلوب والاداء البرلماني الراقي، هذه المجموعة تشهد لها مساهماتها الفاعلة في الفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتطوير اسلوب اداء الحراك السياسي البحريني وبروزهم في المجتمع المدني، خصوصا في مجال التوعية الديمقراطية. البرلمان باعتباره وسيلة قانونية لنشر الفكر الديمقراطي يجب ألا يكون وسيلة لتحقيق غاية وطموح شخصي، وعلى النائب ألا يخلط بين الغرض من دخوله إلى البرلمان بالغرض من تحقيق طموحه الشخصي. وهو موقف يمكن ان يؤدي بنا إلى ازدواج في الممارسة والفهم للحياة النيابية المفترض ان تكون عملا تطوعيا وطنيا لخدمة افراد الشعب البحريني.
اذا بين مشكلة مقاطعة البرلمان ومشكلة إصلاح أو تعديل الدستور لتطوير التجربة الديمقراطية يقف المواطن البحريني حائرا. نواب البرلمان يراهنون على تطوير التجربة الديمقراطية عن طريق تقديم مشروع قرارات تحظى بالقبول الشعبي، ويعولون على تأييد نواب مجلس الشورى للفوز بتلك التعديلات، ولكن غالبية المواطنين يعتقدون ان أعضاء مجلس الشورى ما هم إلا موظفون حكوميون ملتزمون بالخط السياسي الحكومي والموظف الحكومي لا يغرد خارج السرب. الخيار الاخر هو الاستمرار في مقاطعة البرلمان وهذه الخطوة لن توصلنا إلى أية نتيجة في هذا الفضاء الواسع من المناورات السياسية والمتناقضات الايديولوجية. مثقفو الساحة البحرينية المتابعين للأمور السياسية المحلية يعولون على عقد مؤتمر دستوري شعبي غير راديكالي أي مرن، تشارك فيه جميع القوى الوطنية والاطياف السياسية وأعضاء البرلمان للوصول لحل وسط. أكثر المقترحات جاذبية، مقترح تخفيض أعضاء مجلس الشورى لترجيح كفة أعضاء المجلس النيابي، وإصلاح مشكلة التمثيل النسبي للكثافة السكانية في الدوائر الانتخابية للوصول إلى وضع انتخابات بتوزيع سكاني عادل ومنصف دون تمييز بين الفئات الوطنية المتجانسة. هذه المقترحات تبقى أكثر الحلول عملية، ويعتقد الكثير من المهتمين والناشطين في هذا المجال الذين تحدثت معهم، بأن الحوار يجب ان يبدأ بين الاطياف السياسية والقوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني وممثلي المؤسسات التشريعية المنتخبة، لاقامة حوار جدي للوصول للأهداف والغايات المرجوة من تقديم تلك المقترحات. قد تثبت تلك المقترحات كموقف استراتيجي تؤهل المعارضة دخول الانتخابات النيابية المقبلة في العام 2006. ربما تكون هذه الاستراتيجية مبادرة سياسية لفكر سياسي متجدد، فكر يفهم طبيعة الصراعات العشائرية والقبائلية وصراع السلطة في المنطقة. فكر يتقبل البيئة السياسية البحرينية والتركيبة السكانية.
اذا كانت المقاطعة جاءت على خلفية تحفظات أربع جمعيات سياسية رئيسية على دستور 14 فبراير/ شباط 2002 وخصوصا فيما يتعلق بالصلاحيات التشريعية والرقابية الممنوحة للمجلس المنتخب، من الطبيعي ان يترتب عليها جملة من المواقف الأخرى لاسيما ازاء المؤسسة النيابية التي افرزتها هذه الانتخابات، ونعني بذلك المجلس الوطني بغرفتيه المنتخبة والمعينة. مرئيات العمل الوطني في الفترة المقبلة التي افصحت عنها الجمعيات الأربع تحتضن بعضها المقترحات الوسط التي سيناقشها المؤتمر الدستوري الشعبي اذا ما عقد. الحقيقة التي لابد ان توصلنا للواقع المعيشي هي ان المواطن العادي لابد أن يحظى بثقة نواب مجلس النواب، التي خسرها النواب في دور الانعقاد الأول للفصل التشريعي الأول، في الوقت نفسه فاننا ندعو المواطنين إلى النظر للأمور بنظرة موضوعية دون تسرع في الحكم على اعمال الفصل التشريعي الثاني من دور الانعقاد الأول، ولكن هذا لا يغير النظرة السائدة للأكثرية التي ترى في البرلمان الكثير من الثغرات والاخفاقات، وتعتبره مجرد شكل من اشكال الادوات التشريعية والرقابية تم تفصيله ليتناسب والوضع السياسي في المنطقة أو وفقا لمقتضيات النظام العالمي الجديد ومستلزمات العولمة.
هذه المؤسسة التشريعية انجزت المهمة المرسومة لها في دور الانعقاد الأول للفصل التشريعي الأول، وقامت بدورها كاملا تماما كما اريد لها ان تكون، لهذا يعتقد المتشككون بان البرلمان بوضعه الحالي ما هو الا مجرد ظاهرة غير فاعلة ولا يعدو كونه مجلسا للحوار العقيم.
من المؤكد أنه يجب ان تسود هذه الدورة الموضوعية والحيادية في المناقشة والطرح، لتوصيل المطالب الشعبية الملحة. وعلى أعضاء المجلس تسخير جل امكاناتهم المتاحة لتحقيق اختراق رئيسي لطرح المطالب الشعبية الملحة للوصول للحد الأدني من الممارسة النيابية وفقا للمعايير الدولية للديمقراطية. من بين الأمور الواجب طرحها الاسلوب الديمقراطي لمحاسبة الحكومة، وايجاد تعديلات دستورية تصالحية مقبولة من جميع الاطياف السياسية. كذلك العمل على سد الثغرات الماضية كتقديم الحكومة مشروع قانون الموازنة متأخرا 3 اشهر عن موعد تقديمه المحدد، أو خرق الدستور في موضوع علاوات السيارات والمكاتب، وقضية الألف دينار التي منحتها الحكومة لنواب المجلسين، والعلاوات الشهرية بمبلغ اجمالي شهري قدره 1250 دينارا وهو ما يشكل زيادة 60 في المئة على راتبهم الشهري، التي لم يعترض عليه أحد من النواب. المكرمات الأخرى: بمنحهم مبلغ ألف دينار، قيل مرة انها تعويض عن حملاتهم الانتخابية ومرة أخرى انها تعديل وضع. في كل الاحوال جميع هذه المكرمات الحكومية تقلل من شأن المجلس النيابي لانها تعتبر علاوات ترضية.
من ناحية أخرى، فان صلاحيات المجلس المحدودة في الدستور الجديد تعيق أية خطوة لتطويره وتعزيز مفهوم الشفافية للوصول لنتائج ترضي الجميع، مشكلة النواب ربما تكمن في تخوفهم من الوقوع في مأزق المواجهة مع الحكومة واحداث ازمة سياسية، وهذا يصرف النواب من القيام بأية مبادرة سياسية جادة تحدث تغييرا جذريا في أعمال المجلس، وبذلك تبقى مسألة الحل والربط في يد الحكومة خصوصا فيما يتعلق والقضايا الكبرى. فهل نشهد دورا تشريعيا جادا يلبي مطالب المواطن البحريني؟ هذا ما نتمناه في هذه الدورة
العدد 400 - الجمعة 10 أكتوبر 2003م الموافق 13 شعبان 1424هـ