من بعد الهدوء، ومن أنات الألم وحرارة الفقد، من عزة ما بعدها عزة، ترانا عن أي شيء نكتب وماذا نقول؟ هناك شيء مختلف يعلمنا أن للكرامة معنى، وأن الحرية تفوق حدود دفء الجدار وطعم الخبز، حديثهم يختلف، روحهم تختلف، صبرهم يختلف، ومن في غزّة لم يمت في يومه مئات المرات؟ لكنهم باقون، لأن صمودهم كبير، ولا يبقى إلا الكبير.
قطاع غزّة، سمي بذلك لأكبر مدنه وهي غزة، يقع في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، وتعتبر غزة من أكثر المناطق كثافة بالسكان في العالم، إذ يسكنها أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني، ثلثهم يعيش في مخيمات اللاجئين تحت إشراف الأمم المتحدة، ويعيش نحو 6900 مستوطن يهودي ويشغلون ما نسبته 40 في المئة من مساحة القطاع. غزة التي عرفت بغزة هاشم نسبة إلى جد الرسول (ص) قيل لأنه ولد فيها، كانت واحدة من المدن الملكية الخمس للبيزنطيين القدماء، خضعت للحكم الإسلامي في القرن السابع الميلادي، تعرضت لغزو فرنسي على يد الجنرال نابليون بونابرت خلال حملته الفرنسية على مصر، لكنها سرعان ما رجعت إلى سلطان الدولة الإسلامية أثناء حكم العثمانيين واستمرت حتى سقوطها خلال الحرب العالمية الأولى في 1917م، عندما استطاعت جيوش أللنبي البريطانية احتلالها. بعد ثلاثين عاما أصبحت غزة تحت الحكم المصري من ضمن المنطقة العربية وفقا لقرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة العام 1947م، وخلال حرب النكبة العام 1948م هاجر إلى غزة نحو 200،000 لاجئ فلسطيني من الأراضي العربية المحتلة من قبل القوات الإسرائيلية، والتي استولت على قطاع غزة خلال حرب يونيو/ حزيران 1967م.
ومع الانتفاضة الفلسطينية العام 1987م والتي استمرت حتى مطلع التسعينات، انسحبت القوات الإسرائيلية من قطاع غزة العام 1994م وأصبحت المنطقة تحت الحكم الذاتي الفلسطيني وفقا لاتفاقية السلام غزة - أريحا، وفي 27 ديسمبر/ كانون أول 2008 بدأت «إسرائيل» قصفها الجوي البربري الشرس على غزة تريد به القضاء على حكم حركة المقاومة الإسلامية حماس، والقضاء على المقاومة الفلسطينية، لكنها لم تفلح في ذلك، ولم تطل يديها سوى الفتك بأهالي غزة الأبرياء، فسفكت دماءهم بوحشية بالقذائف المحرمة دوليا، ولم تستثنى من ذلك الطفل أو الشيخ الكبير، وبعد 23 يوما لم تجد «إسرائيل» بدّا من إعلان الانسحاب للحفاظ على ما تبقى من ماء وجهها بسبب فشلها الذريعة في القضاء على المقاومة، مخلفة وراء هجومها نارا لم ولن تنطفئ من قلوب الغزيين أبدا.
وبعد ذلك كله يقف أهل غزة الآن يلملمون جراحهم، ويبحثون عن أشلاء أحبائهم وسط أنقاض الدمار الذي خلفه بنو صهيون، لكن خطاباتهم مازالت تدوي في العالم (افعلوا ما تشاؤن فسننتصر بإيماننا وثباتنا، فلن نركع ولن نرفع الرايات البيضاء أبدا) لقد علم أهالي غزة أنهم أقوى من أن تدك صبرهم صورايخ ودبابات من فقدوا الرحمة، وأنهم ليسوا ممن يستهان بهم، ولن يكونوا ورقة مساومة من تحت طاولات أو من بين القمم، فهم من كشفوا من يقف معهم ومن يلعب بقضيتهم، وهم من اختاروا الطريق ورسموا ملامحه، وهم وضعوا النهاية.
الشعوب العربية التي كشفت أنها مازالت بخير، ولم تنطلي عليها أضاليل أعلامها الرسمية، وقفت بكل ما لديها مع غزة الإباء. فالمصريون ما فتئوا من المظاهرات الحاشدة في كل الزوايا وعلى جميع المستويات، إذ لمعبر رفح لديهم قصة وفيه غصة، ما بيننا وبينهم سوى بوابة يا بابا الريس هكذا صرح شاعر مصري مطالبا بفتح المعبر، لأنه يسمع من خلفه أنّات وبكاء مرير يمكن أن يريح صاحبه بفك قيد الحصار، ليلتقي بمن يخاف عليه ويسعى إلى لمَ جراحه، وآخرون عرب دعوا إلى انتفاضة المدونين تحت عنوان (مدونون لأجل غزة) يرسلون من خلال مواقعهم ومدوناتهم المختلفة رسائل إلى أهاليهم وأحبتهم في غزة ليقولوا أنهم معهم ويتألموا لمصابهم، بينما لم يجد المبرمجون والمصممون والصحفيون والمراسلون العرب من حيلة إلا إطلاق موقع إلكتروني تحت عنوان «كلنا غزة»، وذلك بوضع الصور التي يلتقطونها من فجائع غزة، ليرى العالم من خلالها مدى حجم المأساة، وحجم ما ترتكبه «إسرائيل» من وحشية تنم عن حقد دفين ووحشية لا مثيل لها.
نعم لقد برهن أهالي غزة، ومعهم الشعب العربي والإسلامي والإنساني، انه على «إسرائيل» أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على حماقات جديدة؟، وأن المجاهدين الجدد لا يقفون على حد الشجب والاستنكار، فقد باعوا ملذات الدنيا بعزة لا تشترى ولا تباع بالمساومات، فالنار نار، والاستشهاد حياة، لكن من يفهم ومن يحس في دنيا الأقزام سوى الكبير.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2332 - الجمعة 23 يناير 2009م الموافق 26 محرم 1430هـ