العدد 399 - الخميس 09 أكتوبر 2003م الموافق 12 شعبان 1424هـ

لماذا تطارد لعنة مصادرة الرأي هذه الأمة؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

إذا كان نبي هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام اتهم أحد أقرب أصدقائه حين تصرف بما يرفضه الدين الإسلامي من تفرقة عنصرية أو طائفية فقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، وكان ممن تتلمذوا على يده وتحت بصره فما بالنا نحن الذين بيننا وبينه أكثر من 1400 سنة.

لماذا أصبحنا نحارب بعضنا بعضا، لماذا نصادر أفكار الآخرين؟ لماذا نعتبر كل فكر آخر يجب تحطيمه؟

ولو كان هذا وقفا على السلفيين المتهمين بذلك لقلنا هذه فئة انقلبت موازينها بسبب ردة الفعل العنيفة لهم تجاه الذين تعاونوا معهم ثم انقلبوا عليهم الأميركان والأوروبيين لكن تاريخ مصادرة الفكر الآخر لدى هؤلاء قديم وبرز ذلك بوضوح منذ مرحلة الخلفاء الراشدين.

أية أمة نحن العرب التي جاءت آيات القرآن صريحة واضحة جميعها تدعو إلى احترام الرأي الآخر والتعامل بالحسنى وهم يخالفونها عمليا، ألم تقل الآية الكريمة «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» (فاطر: 35)، «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، (آل عمران: 159)، «وجادلهم بالتي هي احسن» (النحل: 125)، «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» (العنكبوت: 46)، فخشونة القول وفظاظة الكلام وسوء الخطاب من الأخلاقيات الجاهلية وليست من الأخلاق القرآنية التي تحرص على تهذيب المؤمنين وتربيتهم على الضد من الأسلوب الجاهلي تماما، فالكلمة الطيبة تفتح القلوب وتنعش العقول وترطب النفوس وتحول العدو إلى صديق والخصم إلى صاحب والمعارض إلى مؤيد، هذا ما يقوله الكاتب والمفكر المصري محمد سعيد العشماوي في مقال له تحت عنوان «الإسلام السياسي وسوء الخطاب»، ربما لا يعول كثيرا من الإسلاميين على مقالاته وأفكاره بسبب مواجهته الساخنة مع الإسلام السياسي لكن حين تتابع التواريخ والأدلة المنطقية والأسماء والأفعال التي يقوم بها المتأدلجون الإسلاميون تتضح لك كيف أن التاريخ القديم قد تجدد لدى الإسلاميين حين ركبوا سفينة السياسة منذ بداية القرن الماضي وكيف أن الإخوان المسلمين قد تعاونوا من الإنجليز والأميركان في محاربة الفكر الآخر ما أعطوا طابعا سيئا عن الخطاب الإسلامي البريء من هذه الممارسات.

وحين تتضح لك أن دولا عربية وإسلامية منذ نصف قرن وهي تغذي حتى الجامعات الأوروبية والأميركية بأموال طائلة لمحاصرة الفكر الإسلامي المستنير والمعتدل ليظل الجمود ولغة الإقصاء ومحاربة الفكر الآخر سائدا، لا نعرف أية لعنة تطارد هذه الأمة من خلال سوء خطابهم وممارستهم التي أضاعتها وكانت حجر عثرة في وجه التنمية والتقدم التكنولوجي؟

وها هي هذه الأمة في مثل هذا المنعطف التاريخي الخطير المستهدف وجودها تتخبط ولا تعرف كيف تواجه تحدياتها.

إن الأنظمة العربية كانت دائما وراء القمع الفكري وحاربت كل أشكال الحوار فكتمت على أنفاس شعوبها حتى الموت، السجون والمعتقلات حبلى بآلاف المواطنين من سجناء الرأي والفكر حتى صار القيادي إذا زارهم إلى مراكزهم لم يبق شعرا أو نثرا من المديح إلا وصبّوه عليه حتى لم يبق إلا أن يبايعوه كأمير للمؤمنين أو يؤمنوا بنبوته لو رغب في ذلك.

وأية ثقة تبقى في هذا النوع من الناس، ومن حقهم أن يروا فيهم مجرد هيئات تفتي على مقاسات قيادات ظلمت شعوبها ونشرت الفساد المالي والإداري والأخلاقي، فهل تبقى لهذه الهيئات شرعية البقاء وشرعية الطاعة؟

إن من يبرر للسياسي حسبما يشاء وبالمقاسات التي تنقذه من آثامه ويخدع الجماهير بأفكار تصب لصالح أي قيادي خارج مرتكزات الإسلام من العدل والإنصاف والأمانة فإن ذلك أدلجة للفكر، من حيث لا مجال للاجتهاد فيها فإنهم بذلك انزلقوا في مجال السياسة العفنة. ولهذا فإن الكثيرين ينادون بإبعاد الدين عن السياسة حتى لا يقع الدين الحنيف الطاهر في وحل السياسة.

في محاضرة للمفكر المغربي محمد العمري ألقاها حديثا بمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث تحت عنوان «دائرة الحوار ومزالق العنف» كشف خلالها عن خطورة الخروج من دائرة الحوار ومصادرة الرأي الآخر لما يسببه ذلك من الوقوع في منزلقات العنف وكأنه بذلك كان يخاف أن تتحول البلاغة الأدبية واللفظية إلى ما هو أبعد ليقع في وحل العنف.

وبما أن المتشددين كانوا سبب ورطة الأمة العربية والإسلامية منذ بدايات تعاونهم مع الأميركان والإنجليز من ثلاثينيات القرن الماضي وتوجوا علاقاتهم بالأميركان لإسقاط النظام الأفغاني البعيد عن أرضهم والذي كان مستقرا خدمة للأميركان فصار ما صار، ومن هنا فإن من حق أمتنا ألا تثق فيهم لعدم قدرتهم على إداراتهم للدولة مثل فقدان ثقتهم في حكم البعث والشيوعيين ومدعي القومية مما جعل الإنسان العربي يتطلع إلى سياسيين مستقلين»، فقد يكونوا أقدر على حكم البلاد ولهذا صارت ترتفع أصوات الناس بضرورة البحث عن عناصر (تكنوقراطية) تعرف في فن الاقتصاد والصناعة والمال بعيدا عن الإيدولوجيا التي لم يثبت من تولى حكم البلدان العربية والإسلامية نجاحهم بقدر ما ثبت أنهم لصوص ومفسدين وينفقون كل أموال الشعب على الحزب والترف، وأولئك الذين تسلطوا على شعوبهم في كثير من البلاد النفطية فجعلوا الحرث والنسل والأنعام وما تحوي الأرض في بطنها وما ينزل من السماء جميعها إرثا خالصا لهم.

أية لعنة تطارد هذه الأمة منذ أن بدأ الإسلام السياسي يتولى الحكم وبرز قمع الفكر وذهب خيرة العلماء والمتصوفة والشعراء والمترجمين ضحايا فكان من السهل تكفير كل خصومهم وإيصالهم حبل المشنقة.

لقد هالني ما قرأته للكاتب المعروف جابر عصفور في مقال له تحت عنوان «قمع الاختلاف» الذي نشره أخيرا في «الحياة».

ولو تابع أحد رصد الأسماء اللامعة التي ذهبت ضحايا القمع الفكري ومصادرة الرأي فقط في مرحلة الدولة العباسية لتأكد له أية لعنة تطارد هذه الأمة وأورد هذا الجزء من رصده للأسماء لنعرف كيف أن الذين يطالبون بعزل الدين عن السياسة هم غيورون على الدين الإسلامي وليسوا مناوئين للإسلاميين.

يقول الكاتب جابر عصفور:

«وبقدر المدى الذي وصلت إليه أفكار «الآخر» الطليعة في صياغة عوالم جديدة، وشعور الدولة العباسية بالخطر، كان عنف الاستجابة إلى أصحاب هذه الأفكار الذين اتهمتهم الدولة بتهم الكفر والإلحاد و«الزندقة» و«الشعوبية» لتعكر هذه التهم على دعاواهم، وتستفز العامة ضدهم. ونحن نعرف ما فعلته خلافة أبي العباس السفاح (132 -136هـ) بخصومها، وما فعله عهد المنصور (136-158هـ) بأمثال أبي حنيفة النعمان الفقيه، وابن المقفع الكاتب، وسديف الشاعر، من جلْد وسجن للأول، وقتل للثاني والثالث.

ونعرف ما حدث من قتل لبشار بن برد، وحماد عجرد، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، وسجن لأبي العتاهية، في خلافة المهدي (158 -159هـ) وما وقع من حبس لبشر بن المعتمر الهلالي شيخ معتزلة بغداد لميوله العلوية، وقتل صالح بن عبدالقدوس، ومروان بن أبي حفصة، في خلافة الرشيد (170- 193هـ). أضف إلى ذلك مقتل علي بن جبلة الشاعر، وسجن أحمد بن حنبل الفقيه، وما قيل عن قتل أبي نواس، في عهد المأمون (198- 218هـ) ومقتل دعبل في عهد المعتصم (218- 227هـ) ونفي مروان بن أبي الجنوب، وتعذيب أحمد بن حائط المعتزلي، وسجن ذي النون المصري المتصوف، ومصادرة كتب الكندي الفيلسوف وضربه، في عهد الواثق (227- 272هـ) وقتل ابن الزيات الكاتب بالتنور، وحبس علي بن الجهم ومحمد بن صالح العلوي والجماني العلوي من الشعراء، ووفاة ابن البعيث الشاعر في السجن، واضطهاد المعتزلة ومطارتهم منذ عهد المتوكل (232- 247هـ)، ونعرف مقتل أحمد بن الطيب السرخسي تلميذ الكندي في عهد المعتضد (279- 289هـ) وما يقال عن دس السم لابن الرومي في عهد المكتفي (289- 295هـ) ومقتل محمد بن داوود الجراح، والتمثيل بجثة الحلاج بعد قتله العام 309 هـ، وتعذيب أبي الفضل البلخي بتهمة الابتداع، وهياج العامة على ابن جرير الطبري، ومنعهم من دفنه حين أدركته الوفاة العام 310 هـ فاضطر أهله إلى دفنه في منزله ليلا».

وها هم أصحاب الإيديولوجيا من غير الإسلاميين يرفعون اليوم في بلادنا سيوفهم في وجه بعضهم بعضا ويلعنون من ليس من طيفهم وتوجهاتهم على المنابر ويحاولون تشويه دورهم النضالي. وهم اليوم يقاتلونهم من خلال الحوار والتنظير. ترى ماذا يفعلون بهم لو حكموا؟

شهد التاريخ المعاصر ما فعلوه في المشهد السياسي العراقي وغير العراقي فلا تكل الأمة إليهم يا رب العالمين ليبقى هذا العدد المحدود من المثقفين والشعراء والأدباء والفنانين في بلادنا على قيد الحياة

العدد 399 - الخميس 09 أكتوبر 2003م الموافق 12 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً