ابتعد المردار (عيسى بن صبيح) المكنى بأبي موسى عن استاذه بشر بن المعتمر، ثم اعتزل المعتزلة وسمي «راهب المعتزلة» ليس بسبب اعتداله وانما نتيجة لتطرفه، إذ بلغ به التشدد درجة لا تطاق وصلت إلى حد تكفيره كل الناس وكل مخالف لرأيه.
يقول الامام البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» ان المردار استحق لقب الراهب لانه كان مأخوذا من «رهبانية النصارى» وعرف بالمردار لان لقبه «لائق به ايضا» بحيث اذا ابصرته «فكرت في لقبه».
وينقل الشهر ستاني مشادة كلامية حصلت بين المردار وابراهيم بن السندي وسأله الاخير مرة عن «اهل الارض جميعا فكفرهم، فاقبل عليه ابراهيم وقال: الجنة التي عرضها السموات والارض لا يدخلها الا انت وثلاثة وافقوك» (الملل والنحل، الجزء الاول، ص 69).
تطرف «راهب المعتزلة» ادى إلى عزلته عن الناس لانه كان يرى الناس جميعا كفرة الا هو وثلاثة فقط وافقوا على رأيه وهم استاذه بشر واثنان من تلامذته وهما الجعفران: جعفر بن حرب الثقفي (توفي سنة 234هـ/ 848م) وجعفر بن مبشر الهمداني (توفي سنة 236هـ/ 850 م).
انفرد المردار بمسائل كثيرة عن اصحابه وزاد على قول استاذه بشر في «التولد» حين «جوّز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد». وبالغ كثيرا «في القول بخلق القرآن، وكفر من قال بقدمه» (الشهرستاني، الجزء الاول، ص 69).
احرج بشر المردار فانقلب الاخير عليه آخذا برأيه ومضيفا عليه «عقلانية» متطرفة احرجت ايضا شيوخ المعتزلة. واتبع المردار خطى استاذه بشر في تكفير المعارضين او المخالفين لرأيه مثل العلاف فكتب ايضا مثل استاذه كتابا ضده، ثم قام وكفر استاذه بشر بن المعتمر في قوله بمسألة «توليد الالوان والادراكات»، ثم كفر شيخ المعتزلة وفيلسو فهم النظّام في قوله «ان المتولدات من فعل الله». فالمردار يرى ان الافعال ليست من فعل الله وكفر كل من قال «ان اعمال العباد مخلوقة لله تعالى» كما يذكر الشهرستاني في كتابه. وانكر ايضا ما قاله العلماء والفقهاء عن وقوع فعل من فاعلين احدهما خالق والآخر مكتسب.
التكفير إذا سبب عزلة «راهب المعتزلة» فهو بالغ في الحط من قيمة اصحابه وشيوخه اكثر من استاذه وتطرف في نزعته العقائدية إلى درجة وصلت حد تكفير كل من لا يقول قوله. فالجرجاني مثلا في كتابه «التعريفات» يشير برهبة إلى تطرف المردار وينقل عنه انه قال: «الناس قادرون على مثل القرآن واحسن منه نظما وبلاغة، وكفر القائل بقدمه». وقال ايضا، وهنا سبب آخر لعزلته، ان «من لازم السلطان كافر لا يُورث منه ولا يرث، وكذا من قال بخلق الاعمال وبالرؤية كافر ايضا» (ص 270).
عزلة المردار ناتجة إذا عن سببين: الاول ايديولوجي وهو محصلة تكفيره لكل الناس بمن فيهم اصحابه وشيوخه وتلامذته. والثاني له صلة بالسياسة إذ كان يعترض على علاقة المعتزلة (او بعضها) بالدولة وارتزاق شيوخ بعض فرقها من اموال العامة.
السبب الثاني ليس مؤكدا. فهناك من يتهم المردار بانه كان يسعى للسلطة وتنافس مرارا مع استاذه (بشر بن المعتمر) على صحبة المأمون ونجح في الاقتراب منه واستبعاد بشر عنه فاغضب الكثير ممن عاصر تلك الفترة ودفع بعضهم للكتابة نشرا وشعرا للمأمون يطالبونه بترك صحبته للمردار. مسألة «رهبنة» المردار و«زهده» من الامور المشكوك بصحتها وهي ربما لجأ اليها في نهاية عمره بعد ان اصيب باليأس من كثرة ما جره على نفسه من خصوم وعداوات بسبب تسرعه في تكفير كل من يعارضه او يعترض عليه في مسألة.
يقول ابن النديم في «الفهرست» (ص 207) ان المردار كتب عشرات المؤلفات معظمها في الردود منها تلك الردود على اصحابه من شيوخ المعتزلة (النجار، ثمامة، الشحام، النظام) ومنها تلك الردود على خصوم المعتزلة او اصحاب فرقها. وله ايضا سلسلة ردود على «المجبرة» و«النصارى» و«الملحدين» و«المجوس» و«الجهمية» و«اصحاب اجتهاد الرأي» وغيرها من مناوشات فكرية اتسمت بالحدة وعدم التهاون والتكفير.
ينقل الامام البغدادي عن فيلسوف المعتزلة (النظام) انه سمع المردار يقول «ان الناس قادرون على ان يأتوا بمثل هذا القرآن وما هو أفصح منه». وزاد على اسلافه المعتزلة وقولهم «من لا بس السلطان فهو فاسق لا مؤمن ولا كافر» فقال انه «كافر». (الفرق بين الفرق، ص 151 - 153).
امضى المردار معظم وقته في التكفير فقامت المعتزلة (او بعضها) بتكفيره لقوله «بتولد فعل واحد من فاعلين»، ورد عليها بتكفير شيوخها (او معظمهم) فكفر العلاف على قوله: «بفناء مقدورات الله» وكفر بشر في قوله «بتوليد الالوان والطعوم والروائح والادراكات» وكفر النظام في قوله «بأن المتولدات من فعل الله». (راجع الفرق للبغدادي، صفحات 151 - 153).
ايديولوجية التكفير لم تكن بدعة انفرد بها المردار فهو في النهاية ابن مدرسة لعبت بها الايام والظروف ووقعت في هوى السلطة واستخدمت ادواتها لامتحان المخالفين في رأيها. فالتكفير الذي بدأ في مسألة «خلق القرآن» انقلب على شيوخ فرق المعتزلة وتحولت الفرق إلى معسكرات ترمي بعضها بعضا بالتهم نفسها وترد تهمة التكفير وتتقاذفها مثل كرة النار.
الامر نفسه تكرر مع هشام بن عمرو الغوطي وفرقته التي عرفت بـ «الغوطية» واحيانا بـ «الهشامية». فهذا ايضا كان من اصحاب ابي الهذيل العلاف وانحرف عنه كما يقول ابن النديم في «الفهرست». وادى انحراف هشام عن ابي الهذيل الى ابتعاد المعتزلة عنه، فهو انحرف «فتركه المعتزلة وانحرفوا عنه».
كان هشام بن عمرو من اهل البصرة وسافر إلى بلدان كثيرة ودعا إلى الاعتزال وكتب كثيرا عن «خلق القرآن» الا انه تطرف في اقواله فاختلف مع شيخه (العلاف) فرد عليه في كتاب، ثم رد على الاصم في كتاب «نفي الحركات». (الفهرست، ص 214).
بالغ هشام كثيرا في «نفي القدر» وينقل عنه الفخري في «تلخيص البيان» انه كان يقول: «ان الله اذا خلق شيئا لم يقدر ان يخلق مثله ولا يقدر ان يحيي الارض بالمطر وانه لا يقدر ان يؤلف بين القلوب» (ص 97). ويكرر الشهر ستاني المسألة نفسها ويضيف عليها قول هشام بان «الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، وإن الاعراض لا تدل على كون الله خالقا بل الاجسام».
ويسمي البغدادي الفرقة بـ «الهشامية» وينقل عنها قولها «ان الدليل على الله يجب ان يكون محسوسا وان الاجسام محسوسة، فهي الأدلة على وجود الله». ويضيف الجرجاني على فرقة الغوطي (الهشامية) انها قالت «الجنة والنار لم تخلق بعد». وقالت ايضا «لا دلالة في القرآن على حلال وحرام، والامامة لم تنعقد مع الاختلاف» (التعريفات، ص 320). فهشام يرى انه بعد عثمان لم تنعقد الامامة في اشارة منه إلى انكاره حصار الخليفة الثالث وقتله بالغلبة. وربما يكون السبب الاخير جلب اليه الكثير من المتاعب واثار ضده مجموعة من المريدين. فهو إلى كفره طعن في امامة علي بن ابي طالب (رضي) لانها بحسب زعمه عقدت له في حال الفتنة وبعد قتل إمام قبله. فالامة برأيه لم تجتمع عليه لثبوت (تمسك) اهل الشام على خلافه بينما قال بامامة معاوية (بن ابي سفيان) لاجتماع الناس عليه بعد مقتل الامام علي.
موقف المعتزلي هشام من مسألة الامامة يؤكد ان فرق الاعتزال كانت مشتته وليست متفقة على فكرة واحدة حتى حين انفردت بالسلطة واستقلت بها. فالغوطي (هشام) حرّم على الناس ان يقولوا «حسبنا الله ونعِمَ الوكيل من جهة تسميته بالوكيل، على رغم انها نزلت بالقرآن وجاءت في السنّة الواردة في 99 اسما من اسماء الله» كما يذكر الامام البغدادي في «الفرق بين الفرق» (ص 145 - 151).
اربكت نظريات الغوطي اصحابه المعتزلة فحاول الخياط الاعتذار عنه مبررا كلامه بأنه «قصد المتوكل (الخليفة العباسي) وليس الوكيل». وكذلك اعتذر عن قوله «إن الاعراض لا يدل شيء منها على الله». وقوله «بالمقطوع والموصول في الصلاة غير الكاملة».
الغوطي مثله مثل المردار وبشر وكذلك كان تلميذه عباد بن سليمان الضمري على مثاله
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 399 - الخميس 09 أكتوبر 2003م الموافق 12 شعبان 1424هـ
افتراء الخصوم
المعتزلة اقل الفرق تكفيرا
البغدادي من أكذب خلق الله على المعتزلة