ان إحدى أهم الغايات التي جاء من أجلها الإسلام هي تمكين أتباعه من أن يعيشوا حياة مستنيرة. وقد أورد القرآن الكريم كثيرا من الآيات حول فضل من يملكون المعرفة على غيرهم، وأفضلية من يخالط اليقين قلوبهم استنادا للعقل والمنطق على من عداهم. إن المسلمين يُقدّرون للعلماء قدرهم، وقد لعب هؤلاء على مدار القرون دورا محوريا في رسم الكيفية التي يفهم بها المسلمون دينهم وينظرون بها إلى العالم الخارجي. لكن ما لبث المسلمون أن وقعوا في خطأ الخلط بين المعرفة بمفهومها الواسع، وبين العلوم الدينية بمفهومها الضيق، أو بين العلم بمفهومه الأعم من جهة وبين علماء الدين أو الفقهاء ذوي الدور المحدود من جهة أخرى. وكانت النتيجة أنه بينما كانت حدود المعرفة تتسع، وفهم الإنسان للأشياء ومجالات العلوم يتسع ليطال أحيانا علوم الفلك، فإن رؤية المسلمين لمفهوم المعرفة، وللعلماء ضاقت بشدة وأصبحت محدودة تماما.
وما من شك لدي في أن محدودية رؤية المسلمين لمفهوم العلم والعلماء إنما هي المسئولة عن تدهور النشاط الإبداعي في المجتمع الإسلامي، وتراجع القوة المحركة للحضارة الإسلامية وحيوتها وقدرتها. فالعالم الإسلامي يتذيل اليوم بلا ريب جميع الحضارات الأخرى في إنتاجه للمعرفة واستهلاكه لها. فمعظم المسلمين اليوم ينظرون إلى المعرفة بالمفهوم نفسه الضيق الذي كان سائدا في العصور الوسطى والذي يقصر المعرفة على القانون والفقه والعلوم الشرعية. والعلماء وفقا لهذا المنظور هم أولئك النفر من الناس الذين يحفظون القرآن الكريم، ويحيطون بالعادات والتقاليد، ولديهم إلمام بالأدوات المعرفية وعلم أصول التدريس التي وُضعت قبل أكثر من ألف عام. ولهذا فإن من غير المثير للدهشة أن ينحدر حال الأمة من سيئ إلى أسوأ في ظل قيادة هذه الفئة من العلماء لها.
إن أحد مجالات المعرفة التي أمعن المسلمون في تجاهلها هو علوم الاجتماع. وباستثناء مشروع أسلمة العلوم، وإصدار دورية في الولايات المتحدة حول علم الاجتماع الإسلامي، وكلتا المبادرتين جاءت على يد مسلمين أميركيين في الثمانينات، فإنه لم تكن هناك أية محاولة جادة من جانب المسلمين لوضع أصول لعلم اجتماع إسلامي. إن العلوم الاجتماعية ، وعلى النقيض من العلوم الدينية الإسلامية التي هي في جوهرها علوم نظرية معيارية، إنما تركز على الجانب العملي. فالعلوم الاجتماعية تهتم بفهم العالم ووصفه كما هو على حاله، أكثر من اهتمامها بافتراض ما كان ينبغي أن يكون عليه هذا العالم.
ومن دون خوض في أيهما أكثر أهمية، فإننا يجب أن ندرك أنه بينما قدمت العلوم الدينية الإسلامية في العصور الوسطى رؤية للكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم قبل نحو ألف عام، فإنها لم توفر لعلماء المسلمين الأدوات والتدريب لفهم ذلك العالم كما هو. إن كتابات ومؤلفات هؤلاء العلماء عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم، إنما تُعد بلا معنى، كما أنها تفتقر إلى الفعالية لأنها منفصلة عن حقائق وواقع العصر الذي عاشوه. وببساطة فإنك لو كنت لا تعرف المكان الذي أنت موجود به، فإنك لن تستطيع الذهاب إلى أي مكان آخر حتى لو كنت تعرف وجهتك على وجه الدقة، إذ من أين تنطلق وأنت لا تدري أين أنت.
ومن ثم فإنك بحاجة إلى علوم الاجتماع لتعرف أين تكون، ومن ثم تضفي فعالية على معرفتك الدينية بالوجهة التي تقصدها. وبصراحة، فإنه من دون علوم اجتماعية فإن العلوم الإسلامية التقليدية لا معنى لها ولا فائدة تُرجى منها.
دور علماء الاجتماع
إن أهم عمل يمكن أن يقوم به علماء الاجتماع هو تزويد قادة المسلمين، والرأي العام اليقظ بفهم عملي تجريبي لظروفنا الراهنة. ومن دون تحليل دقيق لوضعنا الآن وما وصلنا إليه، فإنه لن يتسنى وضع سياسات لتصحيح أوضاعنا. إن علماء الاجتماع يقدمون التحليل المتعمق اللازم لعملية صنع القرار.
إن القرآن الكريم يثني في إحدى آياته البديعة على من يتفكرون في خلق الكون ومن ثم يقفون على واقع هذا العالم. يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران( الآيتان 190، 191) «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض».
كما يحض القرآن الكريم المسلمين على انتهاج هذا المنهج العملي، وذلك في سورة العنكبوت (آية 20)، إذ يقول عزّ من قائل: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» لقد طورت دول مثل اليابان والهند والصين علوما اجتماعية خاصة بها وأنجبت علماء اجتماعيين ذوي مهارات خاصة في البحث والتحليل لتقديم المعلومات اللازمة لوضع سياسات فعالة وبما يخدم مصالح دولهم. إن التطور والتقدم والنمو الذي أحرزته هذه الدول إنما ينهض مؤشرا على النجاح الذي حققه علماء الاجتماع فيها. إن العالم الإسلامي الذي يتطلع دائما إلى «العلماء الشرعيين» ليفتوه في مسائل من قبيل حِل أو حُرمة أكل لحم الدب، أو ما إذا كان بإمكان الرجل أن يجمع بين الأختين، أو جواز الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وعما إذا الديمقراطية فكرة جيدة، إنما يعني تخلفا رهيبا. وفي الوقت الذي يكون فيه هؤلاء العلماء الشرعيون مؤهلين للإجابة على السؤالين الأول والثاني، فإن الواقع المعاصر الذي يلخصه السؤالان التاليان إنما هو خارج نطاق تفكيرهم.
إن تقدم غير المسلمين وتخلف العالم الإسلامي يمكن إرجاعه إلى سبب وحيد هو الافتقار إلى المعرفة الذي نكب به المجتمع الإسلامي. ومن جديد فالقرآن شديد الوضوح بشأن هذه المسألة.
يقول تعالى في سورة المجادلة (الآية 11) «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات».
ولأنني لا أستطيع التعرض لإيمان أي شخص، فإنني أعتقد أن الله رفع الغرب والشرق الأقصى إلى مراتب سامقة من العز والرفعة، لا لشئ إلا لأنهم يتيحون لشعوبهم حرية الفكر والمعرفة. إن أفضل الجامعات وأكثر الدراسات المثمرة التي تزيد من تراكم المعرفة هي في الغرب والشرق الأقصى. إنها في الواقع في كل مكان ماعدا دول العالم الإسلامي.
لا يجب أن يقتصر الأمر على مجرد استشارة علماء الاجتماع، وإنما يتعين تشجيعهم على البحث والحديث والكتابة بحرية حول أهم القضايا وأكثرها إلحاحا، من قبيل الأمن الداخلي والخارجي، الجغرافيا السياسية،العولمة، تعدد العقائد داخل المجتمع الواحد، السياسات الاقتصادية والاجتماعية، السياسة العامة والتخطيط على المدى القصير والمدى البعيد. أما المسائل الأخرى التي يمكن لهؤلاء العلماء أن يُثروها فهي تلك المتعلقة بالمناقشات المعيارية استنادا إلى الخبرة العملية للمؤسسات، وأكثر السياسات ملاءمة لعصرنا. إن علوم الاجتماع تتسم الآن بالتنوع الشديد والتعقيد والتطور البالغ. وهي تتعامل مع كل القضايا من دون استثناء، ونتائج دراساتها تؤثر على السياسة في مستوياتها كافة.
إن الأمة الآن ليست بحاجة إلى «العلماء الشرعيين» غير القادرين على فهم العالم من حولنا، وإنما تحتاج إلى علماء اجتماع على دراية أيضا بمقاصد الشريعة، وبالمنهج الإلهي لتطوير وتنمية مجتمعاتنا وحكم شعوبنا بكفاءة وبفاعلية.
إن العلوم الإسلامية، التي وضعها بشر ولم تنزل من السماء، كانت متطورة للغاية في عصور الإسلام الأولى، وساعدت في بث الحيوية في أوصال العالم الإسلامي وجعلت منه حضارة مزدهرة ومهيمنة. لكن هذه العلوم الشرعية لم تتطور كثيرا خلال ما يربو على ألف عام. إن المناهج الدراسية الإسلامية لم تُراجع منذ أكثر من مئتي عام. إن جميع علماء الاجتماع المتمكنين، دائما ما يراجعون مناهجهم على رأس كل عام دراسي. والنتيجة أنه بينما لا تزال العلوم الإسلامية تلج في تخلفها، فإن علوم الاجتماع أحرزت تقدما كبيرا. وفي الوقت الذي صارت فيه العلوم الشرعية مجرد تقاليد جامدة، فإن العلوم الاجتماعية تنبض بالحياة والنمو.
إن علوم الاجتماع أضافت أيضا الدراسات الإسلامية إلى حقلها، وطورت رؤية إسلامية أكثر تعقيدا وتطورا عن طريق المنهج النقدي وتطوير العلوم الإسلامية التقليدية. ويمكن بسهولة اليوم أن تجد علماء مسلمين متخصصين في علوم الاجتماع والإنسانيات، لكنهم أيضا تلقوا تعليما دينيا. إن هؤلاء العلماء مزودون بالمعرفة ويجرون دراسات رائعة لو أخذت بها الأمة لبث فيها الحياة من جديد.
إن المعرفة اللازمة لإحياء الأمة الإسلامية وتطويرها باتت متاحة اليوم. لقد آن الأوان أن تدرك أمتنا أننا على مدى قرون أخفقنا في أن نقود البشرية وننفذ تفويض الله لنا بخلافة الأرض لأننا سلمنا رؤيتنا وعقيدتنا وعقلنا لمن أهدرها. إن القوة هي نتاج المعرفة. يقول تعالى في سورة الزمر (الآية 9) «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».
إن الأمة عاجزة لأن من يُعتبرون علماء أخفقوا على مدى أكثر من خمسة قرون في تزويدنا برؤية تكفل لنا أسباب القوة.
إن مسلمي أميركا يعيشون الآن في وقت باتت فيه الأهداف الأساسية للمجتمع المسلم وقيمه موضع مساءلة واستهجان. وقد آن الأوان لكي يدلي علماء الاجتماع المسلمون الأميركيون بدلوهم ويواجهوا بعضا من هذه القضايا. إن المجتمع المسلم بحاجة إلى رؤية وتوجه جديدين. لقد قدم علماء الاجتماع المسلمون من خلال الدوريات الأكاديمية والمؤتمرات تحليلا دقيقا لحالنا، وكذلك رسموا طريقا مضيئا لغد أفضل وأكثر أمانا للجميع. إن الأمر الآن منوط بقادة المجتمع المسلم لكي يربطوا بين هذه النتائج التي توصل إليها هؤلاء العلماء وبين أي توجه جديد يسلكه هذا المجتمع.
إن علماء الاجتماع بطبعهم نزاعون للانطواء. إنهم بحاجة إلى العزلة للتفكير والبحث والكتابة. ومن الإجحاف أن ننتظر منهم أن يخرجوا هم إلينا. إن البعض - ومنهم كاتب هذه السطور - يفعل ذلك. لكن على الأمة أن تسعى إليهم لكي تستأنس برأيهم وتسترشد بتوجيهاتهم.
إن المستقبل سيكون لمن فكروا فيه مليا وأنعموا النظر فيه أكثر من غيرهم
العدد 399 - الخميس 09 أكتوبر 2003م الموافق 12 شعبان 1424هـ