العدد 398 - الأربعاء 08 أكتوبر 2003م الموافق 11 شعبان 1424هـ

ما طبيعة العلاقة بين المجتمع والمثقف؟

أي تأكيد لعلاقة المثقف بالمجتمع بنسـق واحد ومــكور، سيصدر من نبرة متــلعثمة، لأن الاستنباطات في هذا الشأن صارت متناقضة لحد تلاطمها في بحر لجي، وصار من اللاممــكن وضع الاطمئنان في موضع الأمان في هكذا تحذق لا ينــكره قلم الزمان. ولم يكن بعد قد وجد الرأي المصان.

ربما كانت علاقة المجتمع بالمثقف هي التي عقدت مسار علاقة الأخير بالهوية والوظيفة ورجل الدين ذلك لما يملك ذلك الكيان - أي المجتمع - من قوة فارضة تؤثر بهيــمنــتها على سياقات عدة لتســوقها نحو ما تشــتهي.

ومن ذلك المبـعث بـعث الشعور لدى المثقف بأن المجتمع (عوام) يهيمن ويؤثر بشكل مخطيء على الفئة المثقفة ويفرض قيمومتــه بذلك.

التصور هنا ليس العداء وإنما الحال الشعورية المبطنة والتي يعيشها المثقف وإن كان ملتصقا بسوحه وسفوحه الاجتماعية... نقرأ في صدد ذلك المصطلح أن الجاحظ يكرر كلمة العوام دلالة على الهوة الفاصلة بين المثقف والمجتمع وتأكيدا على وجودها... يقول طه جابر العلوان: «تعرضت الأمة لعلميات تجهيل متعمدة، وليست حديثة، وهي قديمة... وفي إطار حال التجهيل هذه، يصبح المثقف، بمعناه الذي نريده، يصبح غريبا في الأمن ويمثل حالة غير مألوفة... وبالتالي لا غرابة أن نجد انفصاما ما بين المثقف والمجتمع الذي ينتمي إليه... هناك فجوة لا بأس بها، الجاحظ مات في منتصف القرن الثالث الهجري، فكان يكثر الحديث عن ما يسميه هو بـــ (عقلية العوام)».

هنا نلاحظ أن الهوة هوة نقيضين لا يقتربان حتى يصيران متوافقين منطقيا.

ما أسباب وعوامل الهوة بين المثقف والمجتمع؟ الأسباب والعوامل بازغة باشراقة صباح الواقع الذي لطالما حلمنا بأن يكون صباحا جميلا لا يختزن في ساعاته حرارة شمس الحارقة، وهنا تبرز أسئلة لمثاقفة العوامل... ومن تلك الأسئلة: هل يستطيع المثقف أن يمارس النقد بحرية؟ ما مدى خلق القيود والحدود المجتمعية على المثقف؟ هل للمثقف الناقد الحق بأن يثير بعض الكوامن والمضمرات في تعاطي السلوك أو الفكرة أو الخطاب المــمـنهج؟

ستعتبر الكلمة الجديدة في المجتمع عنفوان المشكلة للمثقف، وهذا ما يؤكد عليه كل من ينظر في هذا الشأن... يقول هاني إدريس: «المثقف النخبوي هو المتهم الأول بالتمرد على بيئته وبكل أشكال الاستلاب والانضمام الثقافي. وغالبا ما يتصدى لهذا النوع من المثقفين أناس غير مثقفين بالمعنى «الفرداني» للثقافة، أو مثقفون من ذلك الطراز الذي لم يتحرر من بيئته وأنسجته الثقافية المجتمعية. متهمين إياه بالخروج والاغتراب. لكن هناك ملاحظة موضوعية يجب أخذها في الاعتبار، هو أن صاحب الثقافة العالمة مثلما يكون متعسفا أحيانا عندما يحاول قسر نسيجه الثقافي المجتمعي وخبرة قومه، على ولوج فضاء معرفي جديد ومغاير يعبر عن خبرة مجتمعية معينة، ما يكرس غربته وفراغ محتوى هويته الحضارية أو القومية... فقد يكون طورا، هذا المثقف، مظلوما من عدة نواحي. ذلك أن غالبية المتصدين والمتهمين للمثقف النخبوي ينطلقون من حال نفسية واجتماعية معينة، في رفض كل ما لا ينتمي لعرف نسيجهم الثقافي».

إذا النزعة التحررية من كبت الحدود الاجتماعية هي الحد الفاصل بين المثقف ومجتمعه، ونستــنتج أن العوامل تكمن في: صراخ المجتمع بما يسمى السائد (المعروف عند المجتمع والمطبوع عليه في سلوكه) ذلك الصراخ الذي يدوي آذان المثقفين ويزعجهم بغرض رسم الخط الأحمر لئلا يتجاوز ويدخل فضاء معرفي آخر، عدم قدرة المثقف بممارسة فعلية للوظيفة الثقافية وتلكؤه دون ممارسة النقد الصريح، خصوصا للمؤسسات الرمزية وشخوصها لما تمثل (تلك المؤسسات) من هالة اعتبارية وقداسية للمجتمع يحرم على المثقف أو غيره ممارسة نقد لتصرفاتها وإن كان بناء، نبــذ كل من أراد التغيير في منهجية تفكير العوام (كما يصف الجاحظ) وعدم تمكن المثقف من التكيف مع جو غير مألوف وعدم تمكنه من متصنــعات متكلفة للانسياب وفق السياق العام المشترك. وبذلك يعيش المثقف إما حال نبـذ أو انعزال وعدم ممارسة ثقافية، أو تكيف مكلف وباهظ التعب.

من تلكم النقاط يبــتذر الحل المزروع في أرض السطور لعله يثمر في أرض الواقع، من تلك الحلول: أن يعيش المثقف حالة صحية بعيدا عن أهواء الآخرين ليفرض وجوده، ومع تديدن الحال النسقية لهكذا سلوك ستروض الهيــمنة المجتمعية شيئا فشيء. تفهم رجال الدين لموقع المثقف في مجتمعاتهم، وعدم إقصائه في حال الاستقلال الفكري في الشئون الفكرية، وعدم تلويح سلاح التشرع في وجه أية أطروحة، والمسألة ليست قابلة للمزايدات هنا، فليس المقصود قمع موقعية رجل الدين وإقصائها عن ساحة المجتمع، لكن بونا شاسعا بين ضرورة الاجتهاد وحاجتنا إليه في حياتنا العملية والنظرية وبين إدعاء إحتكار الحق والشرعية كما يقول محمد محفوظ. تعقيم المجتمع من العصبية الكبيرة التي تعيشها بعض مجتمعاتنا المحافظة جدا، فالمسألة إن خرجت عن محذورين (الإفراط والتفريط) ستنجو من ميوعة المجتمع وستنجو من تخشبه في ثكناته اللامفكرة.

والمستخلص أن المثقف يجب أن يعيش الحياة بالطلاقة الثقافية... وإلا فسيكون مرض لا ينم عن وقاية مفترضة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً