العدد 397 - الثلثاء 07 أكتوبر 2003م الموافق 10 شعبان 1424هـ

النسق الليبيري على وقع نظرية «نمو من دون تنمية»

بوش وإعادة التأهيل الإفريقي (2)

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

سقت نماذج عدة في المقال السابق مقدمة وشهادة على حقيقة أوضاع ليبيريا وأعلم بأنها «غير مطلوبة» و«غير مرغوب فيها»، أضعها بتواضع أمام من يهتم بالتنمية في إفريقيا. قادة إفريقيا استقبلوا الرئيس الأميركي جورج بوش الابن منذ بدء زيارته لهم بتاريخ 8 يوليو/تموز الماضي، كما استقبلوا من قبل الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون منذ جولته بتاريخ 23 مارس/ آذار 1998 فهل الذين تفاءلوا بالزيارتين على علم تام بهذه النماذج؟ وهل القادة الافارقة على علم بها في وقت يطلب من القادة العرب مساندة ليبيريا؟

إن العين التي تنظر بها اميركا إلى كل إفريقيا والمنظور الذي تتعامل به معها ، هي ذات العين ، وهو ذات المنظور لليبيريا منذ العام 1822 إلى اليوم. الهيمنة ونهب الثروات؛ والنفطية منها بالذات وتنصيب طبقة تمتثل لها وتتمثل قيمها وسياساتها أي «سياسة الاحتواء».

فاميركا تنظر لكل القارة بوصفها مزيجا من دول ومجتمعات «فاشلة» عبر ما أعلنته من قانون النماء والفرص (AGOA) الصادر عن الكونغرس بتاريخ 12 مارس 1998 قبيل جولة كلينتون الإفريقية بعشرة أيام.

ثم ما كتب في مراكز دراساتها حول طبيعة الدول والأنظمة الفاشلة قبل زيارة بوش - وهذا ما ورد في فصلية واشنطن بعنوان «الطبيعة الجديدة لفشل الدولة القومية» ولأهمية المقال فإن كاتبه مدير برنامج «الصراع بين الدول» في أكاديمية كينيدي ورئيس مؤسسة السلام الدولي روبرت روتبرج.

يعرف روتبرج «أن الدولة القومية تفشل لأنها لم تعد قادرة على توصيل سلع سياسية إيجابية لشعوبها، ويقصد بالسلع السياسية خدمات الأمن والتعليم والصحة والفرص الاقتصادية والرقابة البيئية وإطارا قانونيا للنظام العام، ونظاما قضائيا لإدارتها ومتطلبات البنية الأساسية الضرورية من طرق واتصالات، ويعد الأمن أكثر السلع السياسية أهمية لحياة الناس وأشهرها».

ويضيف روتبرج: «أن الدول الفاشلة متوترة، وتشهد صراعا شديدا، وتخوض الفصائل المتحاربة فيها حروبا خطيرة ومريرة. وفي معظم الدول الفاشلة تحارب القوات الحكومية متمردين مسلحين. وأحيانا تواجه السلطات الرسمية في تلك الدول أكثر من تمرد مسلح في وقت واحد، ومجموعة من الاضطرابات المدنية، ودرجات متفاوتة من السخط الاجتماعي، وطائفة كبيرة من أشكال المعارضة الموجهة للدولة أو لجماعات داخل الدولة».

ويشير روتبرج إلى «أن ما يحدد ما إذا كانت الدولة فاشلة ليس شدة العنف وإنما الطبيعة المستمرة لذلك العنف كما هو الحال في دول مثل أنغولا وبوروندي والسودان». وكذلك «توجيه هذا العنف نحو الحكومة أو النظام القائم والطبيعة النشطة للمطالب السياسية أو الجغرافية بتقاسم السلطة أو الاستقلال التي تضفي عقلانية أو تبرز ذلك العنف. ويهدد الفشل الدولة عندما يتحول العنف إلى حرب داخلية شاملة، وعندما تتدهور مستويات المعيشة بشدة، وعندما تتحلل البنية التحتية للحياة العادية، وعندما يطغى جشع الحكام على مسئولياتهم ويتناسون توفير شروط حياة أفضل إلى مواطنيهم».

و«أن الحروب الأهلية التي تميز الدول الفاشلة تنجم عادة من حال عداء عرقي أو ديني أو لغوي أو غيره من أشكال العداء فيما بين الجماعات. أو أن جذور هذه الحروب تنبت في حالات العداء هذه. ولا توجد دولة فاشلة لم تعرف شكلا من أشكال عدم الانسجام بين جماعاتها، فعدم الانسجام بين الجماعات داخل الدولة سمة ملازمة للدولة الفاشلة.

وأحد المؤشرات التي تقيس مدى فشل الدولة، هو مقدار المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها الحكومة سيطرة حقيقية، وإلى أي مدى تحكم الحكومة المركزية قبضتها على القرى والمناطق الريفية والطرق والممرات المائية ومن الذي يسيطر بالفعل على المناطق النائية في الدولة.

وفي معظم الحالات التي يحكمها العداء العرقي أو الأشكال الأخرى من العداء أو إحساس النظام بعدم الأمن، وتنامي العنف المرتبط بالجريمة بحيث تضعف سلطة الدولة وتعجز. وبحيث ترتكب الدولة جرائم في قهرها لمواطنيها، وتصبح الحال العامة لغياب القانون سائدة، ويتحول المواطنون إلى أمراء للحرب على أساس من التضامن العرقي».

كما تحتوي الدول الفاشلة على مؤسسات ضعيفة أو معيبة وغالبا فإن المؤسسات التنفيذية فقط هي المؤسسات «العاملة» و المؤسسات التشريعية - إن وجدت - فإنها «تبّصم»، على قرارات المؤسسات التنفيذية. والنظام القضائي تابع للسلطة التنفيذية. ويعرف المواطنون أنهم لا يستطيعون الاعتماد على المحاكم لإنصافهم وخصوصا أمام الدولة. والجهاز البيروقراطي في هذه الدول الفاشلة فقد - ومنذ أمد بعيد - إحساسه بالمسئولية المهنية وهو موجود فقط لتنفيذ أوامر المؤسسات التنفيذية ولقهر المواطنين. وربما يكون الجيش في الدول الفاشلة هو المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بقدر من السلام لكنه «مسيّس بشدة» ومعنويات أفراده لم «تعد مرتفعة».

ويتابع روتبرج وكما هو الحال في السودان - مثلا - فإن البنى الأساسية إما أنها متدهورة، وإما أنها دمرت بالفعل. كما أن الخدمات التعليمية والصحية إما جرت خصخصتها وإما أنها تدهورت إلى مستويات لم يعد بالإمكان إصلاحها، ويزدهر الفساد ويصل إلى مستويات غير عادية ومدمرة، كما تعاني من كوارث بيئية ومجاعات.

هكذا يصبح المواطنون أقل ولاء للدولة، وينظرون إلى الحكام على أنهم يعملون لأنفسهم وذويهم، ساعتها تتآكل شرعيتهم وشرعية الدولة بحيث تصبح حكرا على «جماعة» أو «طبقة» فيصبح المواطنون أكثر ولاء للجماعات العرقية أو العشائرية.

ويؤكد روتبرج أن هذه المواصفات تنطبق - الآن - على سبع دول هي: السودان، سيراليون، وليبيريا، والكونغو، وبوروندي، وأنغولا، وأفغانستان.

التدخل الأميركي:

السنغال - ليبيريا ثم القرن الافريقي

ولأن أوضاع هذه الدول الفاشلة تنعكس سلبا على مسارات «العولمة» يرى استراتيجيو أميركا أن «التدخل العسكري» هو «الحل الوحيد» لإعادة تركيب وصوغ هذه الدول بالمنطق «البديل».

بدأ التدخل الاميركي العسكري ومن قبل ليبيريا في السنغال ثم ها هو يمتد من بعد ليبيريا إلى القرن الإفريقي.

بدأ التدخل في السنغال منذ العام 1996 ومن قبل زيارة كلينتون وجولته في إفريقيا في 1998. وبدأ الأمر بمنافسة أميركا لفرنسا، وأرادت فرنسا أن تقاوم من دون أن تطرح «بديلا» للتدخل الاميركي العسكري المستتر بشعار «المشاركة» فقد سبق أن جرت ملاسنة بين وزير الخارجية الاميركي السابق وارن كريستوفر ووزير التعاون الدولي الفرنسي جاك جودفران على اثر انتقاد الثاني للاول في جولته التي شملت عدة دول افريقية، قام بالتبشير فيها بقوات حفظ السلام الإفريقية (قوات التدخل الإفريقي) التي عارضتها فرنسا، فرد عليه كريستوفر في محاضرة ألقاها في مدينة جوهانسبيرج في 12/10/1996، قال فيها: «مضى الزمن الذي كان ممكنا فيه تقسيم إفريقيا إلى مناطق نفوذ أو تعتبر فيه قوة خارجية مجموعات من الدول كأنها (ضيعة خاصة بها)»، وذلك في إشارة إلى فرنسا التي تحداها في المحاضرة أن تعطي مستعمراتها السابقة قدرا من الاستقلال. وكان ذلك (التلاسن) مثيرا، إذ أحدث أزمة سياسية في حينها بين الدولتين الكبيرتين، وأوضح تباين سياساتهما تجاه إفريقيا.

غير أن الولايات المتحدة سرعان ما وضعت عينها على السنغال (التي تعتبر ضيعة فرنسية)، وأولتها اهتماما خاصا لهذا السبب ولمآرب اخرى ، إذ ذكرت صحيفة «الفجر» السنغالية المستقلة في عددها الصادر يوم 6 مايو/ أيار 1997: «ان اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة يرجع الى رغبتها في السيطرة على منطقة خليج غينيا التي تحوي ثروات نفطية ضخمة، وأكدت الدراسات أنها لا تقل أهمية عن النفط الموجود في الخليج العربي».

بعد أيام قلائل من نشر ذلك، استخدمت الولايات المتحدة للمرة الأولى قاعدة في مدينة تبيس (80 كيلومترا شرق داكار) في تدريبات مشتركة مع القوات السنغالية في يوم 21/7/1997 - على رغم معارضة فرنسا - طبقت فيها أحدث أنواع الأجهزة الملاحية وحظائر الطائرات ، إضافة إلى مهبطين مصممين لاستقبال طائرات الشحن العملاقة من طراز (سي 130 هيركيوليز).

غير ان فرنسا لم تستمر في المواجهة كثيرا وان أبقت عليها حتى اليوم ففي أغسطس/آب 1997 أعلنت فرنسا على لسان وزير دفاعها آلان ريتشار أنها ستخفض عدد قواتها العسكرية في إفريقيا من نحو 8 آلاف ومئة جندي إلى أقل من 6 آلاف جندي، على أن يعاد تركيز هذه القوات في خمس قواعد أساسية في السنغال والغابون وتشاد وساحل العاج وجيبوتي. كذلك تخفيض عدد المقاتلات المتمركزة في إفريقيا من 15 إلى 12 مقاتلة، بينما أعلنت عن زيادة طائرات النقل من 6 إلى 9.

بعد السنغال جيبوتي

استحوذت اميركا على السنغال إلى حد كبير، ولم يجد بعض السنغاليين لدى زيارة بوش لهم يوم الثلثاء 8 يوليو 2003 مستهلا جولته الإفريقية مجالا لمعارضتهم جولة بوش سوى التظاهر إما بدوافع «وطنية» أو «بدفع فرنسي»، وبما أن اميركا فرضت وجودها العسكري في السنغال فقد أدان المعارضون السنغاليون احتلال اميركا العسكري للعراق. (إياك أعني فاسمعي يا جارة).

غير أن اميركا ومن بعد استحواذها على السنغال مدت جسورها العسكرية إلى أهم قاعدة فرنسية في «القرن الإفريقي» وهي جيبوتي إذ اعتبرتها أهم مركز لمكافحة الإرهاب وخصصت لها مساعدات سنوية تفوق مرات مساعداتها لليمن.

من جيبوتي تنطلق اميركا لتنفيذ توصيات مؤتمر جامعة جنوب فلوريدا المشار إليه في المقدمة ، مكافحة للإرهاب وتأسيسا لكنفدرالية القرن الإفريقي ومجلس تعاون دول البحر الأحمر.

فهناك فريق اميركي للطوارئ والقوات الخاصة متمركز الآن في جيبوتي وفي قاعدة ليمونيه نفسها التي كان يشغلها «الفيلق الأجنبي الفرنسي» والتغيير الذي طرأ على هذه القاعدة هي أنها قد زودت بمكيفات الهواء وصحون المحطات الفضائية.

وفي مقابل ساحل جيبوتي يربض نحو 2000 من قوات المارينز - (مشاة البحرية) في سفنهم الحربية تحت قيادة البريغادير جنرال ماتسن روبسون وتسانده سفينة حربية مزودة بأجهزة التجسس على كل بلدان القرن الإفريقي بحجة رصد الارهاب.

وقد قيض لي أن أكون في إرتريا وفي ميناء مصوع بالذات حين مرت هذه السفينة بالشواطئ الإرترية في 28 مارس 2003 إذ تم الاحتفال بافتتاح محطة الطاقة الكهربائية والتي كان من بين مموليها «صندوق أبو ظبي للتنمية» والصندوقين الكويتي والسعودي.

خصصت داخل السفينة عدة «غرف رصد» خاصة بكل دولة معنية في القرن الإفريقي وتحوي من المعلومات ما يفوق حجم المعلومات المتوافرة لدى هذه الدول مجتمعة.

ثانيا: اضطراد المحاذير من التدخل

الأميركي على مستوى القارة

يبدو أن فرنسا رضخت لإرادة التدخل الاميركي في السنغال ثم في جيبوتي وهما أكبر مرتكزين تقليديين وتاريخيين لفرنسا في إفريقيا، (السنغال في غرب إفريقيا وجيبوتي في القرن الإفريقي) بل ويبدو أن هذا الإذعان الفرنسي للإرادة الاميركية قابل للاستمرار كما هو حادث في التراجع الفرنسي عن المواقف المتشددة التي سبقت التدخل الاميركي البريطاني في العراق، وصمت فرنسا تجاه مقترحات سورية التي ربطت بين التخلص من «أسلحة الدمار الشامل» في المنطقة والتخلص بذات الوقت من أسلحة «إسرائيل» التدميرية، ففرنسا هي التي بنت مفاعل ديمونة الذري في «إسرائيل» منذ العام 1957 ومازالت تمده باحتياجاته.

نيلسون مانديلا ذلك الرمز الإفريقي الذي عمد هو الآخر لملاسنة بوش، ولكن من على بعد، غادر جنوب إفريقيا يوم الأربعاء 9 يوليو حين وصل بوش إليها. تعمد مانديلا قبل بدء جولة بوش أن يهاجم تجاوز السياسة الاميركية للهيئة العالمية وتدخلها مع بريطانيا في العراق، ويعتبر هذا الهجوم رفضا «مبطنا» للمشروع الاميركي لانشاء قوة التدخل العسكرية في إفريقيا.

ولا تنتهي المحاذير لدى مانديلا وحده ، فمعظم قادة القرن الإفريقي وكذلك كينيا ينظرون بحذر لما سيكون عليه الدور الاميركي في بلادهم.

ففي آخر زيارة قبل تنحيه عن الرئاسة في بلاده ناقش الرئيس الكيني دانيال آراب موي مع الرئيس بوش في واشنطن وبحضور رئيس الوزراء الأثيوبي ميلس زيناوي علاقات واشنطن بالقرن الإفريقي وشرق إفريقيا. وتطرقت المناقشات للأزمة الصومالية ومكافحة الإرهاب في المنطقة وذلك على خلفيات من بينها تفجيرات السفارتين الاميركيتين في كينيا وتنزانيا بتاريخ 7 أغسطس 1998 وكذلك الهجوم على المنتجع السياحي في تنزانيا ومحاولة إطلاق صاروخ على طائرة «العال» الإسرائيلية بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 م ، ولم تصب الصواريخ الهدف.

إضافة إلى موقف أثيوبيا الرافض لشرعية حكومة «قاسم صلاد حسن» المتمركزة في «مقدشيو» العاصمة الصومالية وبعض الأرجاء القريبة.

وطبعا ليس ببعيد عن الذاكرة الاميركية فقدانها 19 جنديا في الصومال إثر تدخلها العسكري (1992 - 1995)

العدد 397 - الثلثاء 07 أكتوبر 2003م الموافق 10 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً