تحدث خطيب جامع عالي الكبير الشيخ ناصر العصفور في خطبته أمس (الجمعة) عن جانب من مواعظ وإرشادات الإمام زين العابدين (ع) وخصص الكلام على مقطع من دعائه والذي يقول فيه: «ولا ترفعني في الناس درجة، إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها»، قائلا إن الإمام علي بن الحسين (ع) وهو الخبير بأدواء النفس وعللها والذي يشخص حالات الخلل والضعف في النفس الإنسانية ويصف العلاج الناجع للوصول إلى حالة التوازن الداخلي والاطمئنان النفسي، فالإمام يشير في هذا المقطع القصير إلى معنى دقيق يحتاج إلى التأمل، فالإنسان قد يحصل على مقام مرموق أو وجاهة اجتماعية ورفعة أو شهرة، فهذا المقام الاجتماعي يقوم بسبب ما يقدمه للمجتمع من نفع «خير الناس من نفع الناس»، كما لو كان صاحب مال يشارك بأعماله الخيرية والمشروعات الإنمائية ومساعدة المحتاجين أو يكون صاحب علم في أي مجال من مجالات العلم والمعرفة أو الخبرة بحيث يستفيد الناس من علمه وعطائه وخبرته، أو صاحب وجاهة اجتماعية يسعى لقضاء حاجات الناس وشئونهم، وما شابه ذلك من أسباب، هذا الارتفاع عند الناس أو الظهور الاجتماعي سينعكس على داخل الإنسان ويولد لديه حالة من العجب بالنفس أو الكبر والزهو ولو بمقدار ما، على اعتبار أنه يشعر بحالة من التميز والتفرد بين الناس.
وأضاف العصفور أن الإمام (ع) من خلال هذا الدعاء يوجهنا إلى الالتفات إلى هذا الجانب ويرشدنا إلى العلاج الحقيقي وكيفية التعامل مع النفس حتى في الأمور والقضايا التي نكون في غفلة عنها أو لا نلتفت إليها ولا نستطيع أن ندركها بشكل واضح بحيث تخفى علينا، ولكنها في الواقع تؤثر على روحيتنا وشخصيتنا وعلى تركيبتنا النفسية، فهذه الحالة من الرفعة الظاهرية لابد أن تقابلها حالة أخرى وهي ضعة النفس «حالة التذلل»، بمعنى الشعور الداخلي بالافتقار والاحتياج، وأن الإنسان مهما بلغ من مكانة ظاهرية فهو يبقى مخلوقا ضعيفا، أي مهما ارتفعت أيها الإنسان ومهما كان لك من المكانة والرفعة والجاه ستبقى كإنسان لك نواقص وعيوب ولابد أن تنظر إلى ذاتك ونفسك كما هي وتسعى إلى إصلاحها وتهذيبها، هذا الشعور المقابل سيحقق حالة من التوازن في النفس والغرض منه هو السيطرة على نوازع النفس وإيقافها عن التعالي والغرور أو التمادي في الاستهتار أو الانحدار إلى المعاصي والمخالفات، فالإنسان دائما وأبدا في حاجة إلى الدعاء والطلب من الله أن يمده بعونه ويعينه على نفسه وإصلاح ذاته «ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها»، فالإنسان بطبيعته يسعى إلى تحصيل العزة والمكانة الاجتماعية والدين كذلك يريد للإنسان المسلم أن يكون عزيزا يعيش حياة العزة والكرامة والرفعة على مستوى الفرد والجماعة والأمة، ويرفض لهم حياة الذل والانهزام والانكسار «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(المنافقون:8).
وقال العصفور إن الإمام (ع) في دعائه يقول «وأعزني في عشيرتي وقومي»، فالعزة أمر مطلوب عقلا وشرعا، هذه العزة الظاهرية التي نحصلها لابد أن تقابلها ذلة باطنية، بمعنى انكسار النفس أمام الحق عز وجل والخضوع والتذلل له سبحانه وتعالى، وبذلك يتحصل الإنسان على العزة الواقعية، فالعبد المؤمن يطلب من الله الحماية والحصانة التي توصله إلى مرحلة التوازن النفسي بحيث لا يطغى جانب الارتفاع في المستوى الاجتماعي على حساب البعد الداخلي وبناء النفس وحتى يكون الإنسان عبدا لله تعالى وليس عبدا للهوى والرغبات «من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله».
كما تحدث العصفور عن ملكة التقوى والصلاح، وأشار إلى أن الاستقامة والصلاح لا تحصل بمجرد التظاهر بالتدين والالتزام وإنما يحتاج الإنسان إلى مجاهدة ومحاسبة للنفس حتى يصل إلى مرحلة التقوى والصلاح بالانقياد الكامل إلى طاعة الله والتزام أمره، وذكر العصفور حديث الإمام زين العابدين الذي استعرض فيه الطريقة التي بواسطتها استكشاف حالة التدين والصلاح الحقيقي حيث أن كثيرا من الناس ينخدعون بمجرد الظاهر وحسن السمت، فبين الإمام (ع) أن الناس يختلفون في رغباتهم وميولهم النفسية وتطلعاتهم وأن كون الإنسان عفيفا في جانب لا يكشف عن النزاهة والاستقامة فلابد من اتباع الخطوات الأخرى التي بينها الإمام لمعرفة الرجل الصالح بحق فهناك من الناس من لا يغيره المال ويترك شيئا لشيء آخر، فيعف عن المال الحرام ولكنه يضعف أمام الإغراء، فيقع في الفاحشة، فالإمام يقول «لا يغرنكم حتى تجربوه»، وهكذا يفصّل الإمام من خلال هذه الرواية الطريق لمعرفة صلاح الإنسان واستقامته الحقيقية وليست الزائفة.
العدد 2332 - الجمعة 23 يناير 2009م الموافق 26 محرم 1430هـ