العدد 396 - الإثنين 06 أكتوبر 2003م الموافق 09 شعبان 1424هـ

اقتلاع المجتمع من جذوره ضمن خطة نمو من غير تنمية

بوش وإعادة التأهيل الإفريقي على النسق الليبيري (1)

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

أريد في مقالين متتابعين هنا التنفيس عن «كربي» فالبعض إذ يطلق عليّ «الخبير في الشئون الافريقية» لا يدري مدى «المرارات» التي عانيتها طوال أربعين عاما مع هذه القارة وحوادثها وتحديدا في القرن الافريقي. فان تكون خبيرا علميا وأكاديميا فهذا أمر سهل وهناك الكثير من الخبراء المختصين والمتفرغين في مراكز البحوث والدراسات ويوفرون لهم كل شيء. هؤلاء ومعظمهم يرتبط بمراكز بحوث أجنبية تتصل مباشرة باتخاذ القرار وهم يعيشون توافقا نفسيا وسياسيا بين ما يبحثونه ثم يطرحونه ثم يؤخذ به جزئيا أو كليا. أما حالي باعتباري عربيا يتواصل غالبا مع مراكز صنع القرارات العربية فمختلف وإلى حد مأسوي. فحين تكون قضية افريقية مطروحة وتتطلب قرارا عربيا، إما بدافع عربي أو أجنبي فإن موجباتي لاتخاذ القرار ترتبط لزوما بما أراه من «مصلحة عربية». ولكن غالبا ما يتخذ القرار نقيض ذلك فأنصرف إلى مزيد من القهوة والشاي والتدخين والبحث عن أفلام الكاوبوي والهنود الحمر.

ومع تطلعي دوما للمصالح العربية في إفريقيا، استراتيجيا وحضاريا واقتصاديا وثقافيا وحتى دينيا، فإن هذه القارة تشكل نصف تكويني كسوداني، وقد تفتحت ثقافتي في الستينات على نضالات هذه القارة ورموزها من «الاوساجيفو» أي المنقذ كوامي نكروما في غانا، وإلى سيكوتوري أو الشيخ توري في غينيا وموديبوكيتا في مالي، والشهيد باتريس لوممبا في الكونغو الذي صفته جسديا وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي- اي -ايه). في يناير/ كانون الثاني 1961 بعد اعتقاله في ديسمبر/كانون الأول 1960 إثر قيادته لاستقلال الكونغو. وأشرف على العملية مويس تشومبي الذي انفصل باقليم كاتنفا ثم أسلمت البلاد للعريف موبوتو سيسيسيكو كوازي بانقا التي تعني الأسد الذي حين يزأر تختفي وحوش الغابة «منذ انقلابه في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني1965.

وإلى جوموكنياتا أو «السهم الملتهب» في كينيا وحتى الثائر منغستو نواي الذي قاد انقلاب الثلاثة أيام نهاية ديسمبر 1960 في إثيوبيا ضد نظام الإمبراطور هيلي سلاسي والملقب «بأسد يهوذا وسبط صهيون المختار»، وهذه تعني بدورها قوة الأب والابن والروح القدس، أما اسمه الحقيقي فهو «رأس تفري».

عايشت إفريقيا برموزها ونضالاتها وثقافاتها وحتى كتّابها. ولهذا حرصت على أن يكون أي قرار عربي يتخذ بحقها منسجما مع المصلحتين العربية والإفريقية.

كباحث عربي ملتزم ليس من الصعوبة تحديد استراتيجية عربية في إفريقية والعمل بمقتضاها، فإفريقيا الشرقية من الصومال وإلى جنوب إفريقيا متواصلة تاريخيا وحضاريا وتجاريا ودينيا مع جنوب الجزيرة العربية وخليجها عبر «سفن البحار»، كما أن غرب إفريقيا من السنغال وإلى تشاد متواصلة عبر «سفن الصحراء» وظهور الإبل من المغرب العربي الكبير.

فحين يتطلب الأمر تحديد خطط للعمل العربي في إفريقيا فليس المطلوب أكثر من ركوب ذات السفن وفي الاتجاه نفسه للتواصل مع شرق إفريقيا وغربها.

ولكن: أين المفاجأة وأين المرارة؟

ذلك حين يطلب منك وبشكل عاجل إعداد دراسة مكثفة عن الكونغو (زائير) في العام 1975 لأن إقليم شابا يهدد بالانفصال. وإقليم شابا يهم المصالح الفرنسية والبلجيكية وليست هناك أدنى علاقة للكونغو أو لهذا الإقليم بالعرب.

كتبت الدراسة ولكني أشرت أن ما يهم العرب الآن هو تعزيز العلاقات بين دول «الاوبك» العربية مع الزعماء الأفارقة الذين قطعوا علاقاتهم بـ «إسرائيل» وينظمون اجتماعا مع القادة العرب في القاهرة لتعويضهم عن ارتفاع أسعار النفط وإنشاء مصرف مشترك للتنمية الإفريقية برأس مال قدره 200 مليون دولار قابل للزيادة إلى 500 مليون دولار.

إضافة إلى أن هؤلاء القادة الأفارقة سيساندون المقترح المقدم - وقتها - للجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية. ويشكل هؤلاء القادة ثلثي مجموع الدول الإفريقية البالغة (47) دولة. فاقترحت أنه إذا كان المطلوب مساندة «الكونغو» فالمقابل المطلوب هو اتخاذ الكونغو المواقف الإيجابية المطلوبة تجاه القضايا العربية كما سيتقرر في مؤتمر القاهرة.

استبعدت «توصيات» الدراسة وأرسل مبلغ 65 مليون دولار إلى موبوتو عبر وساطة دولة في شمال إفريقيا، وعلمت لاحقا أن المبلغ الذي وصل إلى موبوتو هو 40 مليون فقط، ثم ادرج في موازنة المواجهة ضد «شابا» هو 15 مليونا، هكذا «طارت» باقي الدولارات وتبلغ 50 مليونا، عبر الوسطاء. ولم يدرج هذا المبلغ حتى الآن في البيانات الرسمية للدعم العربي لإفريقيا.

وخضت تجربة أكثر مرارة مرة أخرى، وذلك بدفعي لمشروع عربي - إفريقي مشترك لإنشاء مراكز ثقافية ودينية في شرق إفريقيا، وتم التصديق على المشروع، ولكن تم ايداع ربع المبلغ المطلوب، وبعد سنتين أغلقت المراكز العربية الإسلامية أبوابها، والكارثة أن الكنائس التبشيرية اشترت المباني وعوضت العاملين في هذه المراكز وبعضهم «دعاة» عن رواتبهم وبدل سكنهم.

ثم إلى ليبيريا: كارثة أخرى

سقت هذه المقدمة لأني أعلم ببعض الرسائل الموجهة إلى بعض الدول العربية حول «مأساة ليبيريا» وأضرار الحرب الأهلية بعد استقالة الرئيس تشارلز تايلور ولجوئه إلى نيجيريا، لهذا قررت أن أدفع بهذين المقالين ليدرك من يريد أن يتخذ قرارا بالتمويل تحت ضغط بعض القوى الأجنبية حقيقة ما جرى ويجري في ليبيريا.

من يصدق ان ليبيريا قد حُكمت بأسوأ نظام عنصري في العالم منذ تأسيسها في العام 1822؟ ومن يصدق أن هذا النظام العنصري هو « نظام افريقي»، لا «صفة» ولكن «حالا» و «واقعا»؟

فإثر إعلان فيينا العام 1815 الذي قضى بمنع الرق عالميا تحرك بعض الأميركيين «البيض» لتحرير مجموعة من الأميركيين السود والعمل على إرجاعهم من حيث نهبوا واسترقوا. وكانت أشهر معاقل القرصنة في ما يسمى حاليا «ليبيريا» وأطلقوا عليها هذا المسمى دلالة على «التحرير». وكانت «المفاجأة» أن الذين جيء بهم إلى ليبيريا سرعان ما مارسوا «التمييز العنصري» بحق القبائل الإفريقية وتحولوا إلى «وكلاء» لكبريات الشركات الأميركية ينوبون عنها في نهب هذا البلد. وكان هذا هو الهدف الأساسي من «تحريرهم» وإعادة شحنهم إلى إفريقيا، إذ كانت الجهة المسئولة عن «إعادة التصدير البشري» هي «جمعية الاستعمار الأميركي».

سيطر «العنصريون السود» على مقاليد البلاد سياسيا واقتصاديا وإداريا غير أن «الحاكم الفعلي» كان هو شركة «فايرستون للمطاط» التي احتكرت جميع منتجات وصادرات ليبيريا بموجب توقيع العقد معها العام 1926 وتضمن العقد مبدأ «الحماية» أو «الوصاية» على ليبيريا إذ يتم تعيين المستشارين الاقتصاديين بواسطة الرئيس الأميركي نفسه، وبلغت كلفة تنفيذ بند الحماية والدفع للمستشارين ما نسبته 20 في المئة من صادرات ليبيريا في العام 1928 ثم 50 في المئة العام1931 رغما عن سيطرتهم حتى على واردات الجمارك.

أعلن استقلال ليبيريا «شكليا» في العام 1847 غير أنها ظلت تحكم بمنطق الوصاية الأميركية منذ تأسيسها العام 1822 إذ تكونت «حكومة مدنية» تحت إشراف أميركا العام 1824، ثم استمرت هيمنة الشركات الأميركية وإلى اليوم.

تضع أمامنا الحال الليبيرية للهيمنة الأميركية عدة نماذج أساسية لمعرفة طريقة تفكير أميركا تجاه إفريقيا.

النموذج الأول: وهو الخاص بمفهوم «النمو من غير تنمية» وهذا ما أوضحه جيدا تقرير أحوال ليبيريا الذي أعدته «وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية. في العام1962.

ويقصد به مجرد استخدام الصفوة الافريقية المتأمركة لتنمية الصادرات ونهب ثروات البلاد من دون توظيف العائدات في استحداث البنى الأساسية أو تطوير المجتمع. وظلت هذه حال ليبيريا الاقتصادية والاجتماعية إلى اليوم فليس المطلوب تنمية القارة وإنما نهبها فقط.

والنموذج الثاني: ويهدف لاستيعاب الأفارقة الوطنيين من أبناء القبائل ضمن برنامج «الثقافة الأميركية» واقتلاعهم من جذورهم الافريقية لاتخاذهم من قبل «النخبة العنصرية السوداء» أدوات للسيطرة على مجتمعات ليبيريا القبلية، وتم وضع برنامج باسم «نظام التأهيل». ورأت الشركات الأميركية ضرورة توسيع «الكادر البشري» لسلطة «الصفوة الافريقية» المتأمركة، وبما أن هذا المنطق يفترض تنمية وتطوير المجتمع لتوفير هذه «الإطارات / الكادر» إلاّ أن برنامج «النمو من غير تنمية» يحول دون ذلك، فرتبت خطة الاستيعاب بمنطق «سلخ» إفريقيا من مجتمعاتها و«إلحاقها» بمجتمع «النخبة» بتحقيق الآتي:

(أ) «استجلاب» عدد من «الأطفال» من القبائل الإفريقية إلى العاصمة منروفيا.

(ب) «إلحاقهم» بعائلات «الصفوة الإفريقية» مع تغيير الاسم من بناغو مثلا إلى تايلور.

(ج) تعليمهم اللغة الإنجليزية.

(د) «تعميدهم» مسيحيا مع ترك دياناتهم الإفريقية أو الإسلام.

(هـ) «بث شعور الكراهية» لقبائلهم المتخلفة والبدائية ولأعرافها وقيمها وتقاليدها.

(و) «تدمير نزعة الولاء الأبوي لزعاماتهم القبلية» وتوجيه الولاء «لحكومة منروفيا» فقط.

(ز) اقتصار التعليم على «المهني» فقط وليس «الثقافي».

شكل هذا البرنامج المفهوم الثقافي للهوية والمواطنية الليبيرية وحصر سلطة «الحكم» في هذه الفئة وكذلك «المعارضة» فليس من بينهم من يلبس «الزي الوطني» القبلي الافريقي أو يتحدث أية لهجة قبلية في حياته اليومية والعائلية، ولا تشده أية علاقات للأعراف والتقاليد.

بل إن هذا البرنامج قد أدى لتقليص نفوذ زعماء القبائل إذ أخضعت أحكامهم لمحاكم استئناف منروفيا كما فرضوا على أبناء القبائل الآخرين «السخرة» في الأشغال العامة، والجيش.

وطبق هذا البرنامج العنصري الأميركي «الأسود» منذ استقلال ليبيريا الشكلي تحت الوصاية الأميركية في العام 1847، مع ذلك لم تفتح أبواب المناصب العليا أمام هؤلاء الذين سلخوا عن جذورهم وأعيد تكوينهم وفق مقتضيات «الثقافة الجديدة» إلاّ لماما، فقد تقلد واحد فقط من هؤلاء منصب «وزير» و«للتعليم» بعد 65 عاما من تطبيق البرنامج، أي في العام 1915 في حين تقلد آخر منصب ن

العدد 396 - الإثنين 06 أكتوبر 2003م الموافق 09 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:12 م

      كلام درر للمرحوم العلامة محمد أبوالقاسم - معارف قل الحصول عليها دون أن تدفع

اقرأ ايضاً