أمام قرية الجسرة لا يملك الإنسان إلا أن يقف مبهورا لجمال هذه البقعة التي تقع على مقربة من جسر الملك فهد، منذ الوهلة الأولى التي تصل فيها إلى هذه الرقعة الغناء من جزيرة البحرين الأم يسحرك صفاء الجو، وجمال الطبيعة الخلابة.
المساحات الخضراء التي تكسو جنباتها تزيدها حلاة وبهاء، والتصميم المتقن للمنازل الذي يحمل أصالة الماضي يضفي على القرية رونقا مميزا، كل ذلك وغيره دلائل واضحة على أن الجسرة «قرية» تجمع بين عبق الماضي وروح الحاضر من جهة وأنها قرية لا تشبه أية قرية من جهة اخرى. «الوسط» تجولت في ربوع الجسرة، تنقلت بين شوارعها ومنازلها والتقت مع أهاليها الذين لم ينسوا كرم الضيافة الموروثة عن الآباء والأجداد، ذلك في محاولة لتكوين صورة واضحة بشأن هذه القرية.
البداية كانت مع مركز الجسرة للحرف اليدوية الذي يلوح من بعيد حاملا على جانبي مدخله نصب لسفينتين دلالة على الارتباط بالبحر والغوص، وعلى القرب من ذلك وضعت آنية فخارية كبيرة إشارة إلى صناعة الفخار التي اشتهرت بها منطقة عالي، ويجسد مركز الجسرة للحرف اليدوية الكثير من الملامح السائدة في الزخرفة التي كانت تتوج المساجد والمباني والمنازل الكبيرة قديما، وفي الداخل كان اللقاء مع رئيسة المركز الشيخة وفاء سيف آل خليفة التي تحدثت إلى «الوسط» لتكشف جوانب كثيرة في هذه الرقعة الفريدة، إذ تقول: «تتميز منطقة الجسرة بطابعها التراثي القديم، بالإضافة إلى وجود بيت الجسرة الذي ولد فيه الأمير الراحل المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، هذا إلى جانب وجود الكثير من الحرفيين في هذه القرية، كل ذلك كان دافعا كبيرا أمام الحكومة الرشيدة نحو تشييد مركز الجسرة للحرف اليدوية في العام 1990 برعاية كريمة من سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ليكون هذا المركز مقصدا للسياح من مختلف دول العالم».
تضيف: «أعتقد لولا وجود المركز لاندثرت الكثير من المهن القديمة، فعند افتتاح المركز كان الكثير من الحرفيين قد تركوا مهنهم، فتمت مقابلتهم من أجل إعطائهم فكرة عن المركز، وحثهم على ضرورة الحضور فيه من أجل ممارسة مهنة الآباء والأجداد، وفعلا فقد استجابوا للطلب، فانضم إلى المركز الكثير من الحرفيين في صناعات مختلفة ومن مناطق متعددة من البحرين، مثل كرباباد وبني جمرة وعالي وغيرها». وعن الفعاليات الأخرى في المركز توضح الشيخة وفاء: «نشاط المركز لا يقتصر على ما يقوم به الحرفيون، فالمركز يقيم الكثير من الفعاليات كتنظيم المعارض المختلفة التي يدعى إليها جميع الحرفيين البحرينيين ويخصص لهم دعم مالي من قبل وزارة الإعلام، بالإضافة إلى ذلك فإن للمركز مشاركات في عدد من المعارض المحلية والدولية، فقد شارك المركز في معرض بباكستان وحاز على جائزة الإبداع فيه، كذلك هناك مشاركات في سورية والمغرب وغيرها». وتمضي في حديثها: «هناك تفكير حاليا لإقامة مركز للتدريب يكون تابعا لمركز الجسرة للحرف اليدوية، وذلك من أجل الحفاظ على مهنة الآباء والأجداد، وقد تم وضع التصاميم والتصورات الأولية للمشروع، وسيستفيد الكثير من الشباب البحريني منه، إذ سيتم تدريبهم على أيدي خبراء ومتخصصين بحرينيين». وبافتتاح مركز الجسرة للحرف اليدوية ظل الصانع البحريني متمسكا بآلاته وأدواته فهو لا يزال يصنع أحلى التحف، ومازال النجار متمسكا بأزميله ومنشاره ليصنع قطعا جميلة من الأثاث والصناديق المحلاة بالمعادن والسفن الخشبية، ولا يزال الناسج مصرا على الاستمرار في صناعة الأنسجة اليدوية المطرزة والبديعة، وصانع الفخار والمباخر والأواني المزججة والتحف الصغيرة لم يتخل هو الآخر عن حرفته.
وقبل مغادرة المركز التقت «الوسط» مع إحدى قدامى الحرفيات فيه وهي أم مسعود التي سرت كثيرا بهذه الزيارة... سألناها: هل أنت من الجسرة؟، فقالت مستغربة: «نعم من الجسرة، (عيل) من وين، وأفتخر بأني من الجسرة». تقول أم مسعود: «ولدت في الجسرة، وتعلمت صناعة النسيج منذ كنت صغيرة كون هذه المهنة إحدى المهن التي كانت تمارسها نساء الجسرة في الماضي بشكل كبير، ومازلت أواصل مزاولة هذه الحرفة حتى الآن بفضل وجود مركز الجسرة للحرف اليدوية الذي يقدم إلينا الدعم». وبسؤال أم مسعود عن طبيعة حياة أهالي الجسرة في الماضي، صمتت للحظات، وظلت تتأمل وكأنها تحاول إعادة ترتيب شريط الذكريات في تلك اللحظات القليلة وقالت: «في الماضي كان الرجال يعملون في الغوص وكانوا متعلقين بالبحر بشكل كبير، ولكن بعد اكتشاف النفط، انضم الجميع إلى العمل في شركة بابكو، فعمل فيها الآباء، ومن بعدهم الأبناء، وبدأ الأبناء في تعمير القرية شيئا فشيئا، فبنوا مدرسة ابتدائية، ففي السابق كان الأطفال يذهبون إلى الدراسة في مدرسة البديع، وبعد ذلك ينتقلون إلى مدرسة الخميس». وتواصل: «وتوسعت القرية بفضل جهود أبنائها، ففي السابق لم يكن لديهم شيء ليقوموا به سوى الذهاب إلى العمل في الشركة، ومن ثم يأتون إلى البيت من أجل النوم (...) ولم يكن في الجسرة سوى 30 منزلا، حتى قام الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة ببناء المنازل لأهالي الجسرة، وبفضل رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة تم تشييد بيوت الإسكان في القرية».
الحديث مع أم مسعود لا يمل، لكن كان أمامنا الكثير لمعرفته في الجسرة، فودعناها على أمل زيارتها مرة أخرى.
بيت الجسرة
لا تستطيع المرور على قرية الجسرة من دون التوقف عند بيت الجسرة الذي يعتبر نمطا من أنماط العمارة البحرينية القديمة، ويتميز ببساطة بنائه وملاءمته للبيئة والمناخ، إذ شيد بمواد بناء متوافرة محليا، مثل الأحجار البحرية والطين وجذوع النخيل لبناء الجدران الداخلية والخارجية للمنزل، وجذوع النخيل و(الدنجل) التي تستعمل في بناء السقوف وهي متوفرة في الأسواق المحلية. وقد قام ببناء هذا البيت الشيخ حمد بن عبد الله آل خليفة في العام 1907. وفي الثلاثينات سكنه المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة.
وقد شهد هذا البيت مولد الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في الثالث من يونيو/ حزيران من العام 1933، وقد تم بناء بيت الجسرة بأساليب معمارية تتلاءم مع طبيعة المناخ الحار في البحرين، فالجدران سميكة لعزل الحرارة الخارجية، كما أن فتحات ملاقف الهواء (البادجير) والتي تحيط بسطح البيت تهدف إلى جلب الهواء البارد إلى الداخل، ويتكون البيت من عدة غرف مختلفة الاستخدامات كالمجلس وغرفة المعيشة وغرفة العائلة والمطبخ وجميعها مفروشة بالأثاث التقليدي الجميل.
مقبرة تنبشها الكلاب
بعد الزيارة التي شملت مركز الجسرة للحرف اليدوية وبيت الجسرة، توجهت «الوسط» برفقة عضو الصندوق الخيري للجسرة محمد سالم العميري في جولة بأنحاء القرية كانت محطتها الأولى بالقرب من صندوق الجسرة الخيري، إذ بدأ العميري حديثه وهو يشير إلى حيث يوجد الصندوق الخيري: «كما ترون فإن مقر الصندوق الخيري صغير، وهو مقر مؤقت، نتمنى إيجاد مقر أوسع يكون مهيأ لعقد الاجتماعات وحفظ الملفات والأوراق الخاصة بالصندوق».
وعلى مقربة من الصندوق الخيري توجد صالة، يوضح العميري: «هذه الصالة قام ببنائها سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ففي السابق كانت الجسرة تفتقر إلى المكان المخصص لإقامة مجالس العزاء أو حفلات الأعراس، ولكن بعد مكرمة سمو رئيس الوزراء أصبحت هذه الصالة موجودة».
وعلى الشارع المقابل للصندوق الخيري تقع مقبرة الجسرة، يقول عنها العميري: «توجد في الجسرة مقبرة واحدة، وبها مغسلة يرقد بها المغسل ويقوم بتغسيل الأموات في المكان نفسه، وتحتوي المقبرة على سور متهالك يعد معبرا سهلا للكلاب إلى داخل المقبرة، فعندما يتم دفن الميت تأتي الكلاب عبر هذا المنفذ وتقوم بنبش القبر في الليل، وقد تكررت هذه الحادثة لأكثر من مرة، وعلى إثرها تمت مخاطبة وزارة الشئون الإسلامية منذ فترة من أجل عمل اللازم، ولكن الوزارة لم تقم بشيء حتى الآن، المفروض أن يتم الاهتمام بالمقبرة لحفظ كرامة الأموات».
شاطئ صغير
وعلى مسافة عدة أمتار من المقبرة يطل بحر الجسرة وهو شاطئ صغير، وإلى الأمام يمكن للناظر مشاهدة جسر الملك فهد بكل وضوح، أما من الخلف فتحده البساتين الخضراء، شاطئ الجسرة يختلف كثيرا عن بقية شواطئ البحرين من حيث نظافته، ولكنه يفتقر إلى عدة أمور بحسب قول العميري: «شاطئ الجسرة صغير، ولكن على رغم ذلك فهو مقصد للأهالي والسياح كذلك، لذلك فهو يحتاج إلى الإنارة، ويحتاج أيضا إلى تخصيص أماكن للاستراحة، ونتمنى من الجهات المختصة الإسراع بحل مشكلة المجاري التي تلقي بالأوساخ في البحر، ما يؤثر على صحة مرتادي البحر». ويضيف العميري: «تعاني عدد من المنازل القديمة من غياب المجاري، وهو ما سبب تشققا في جدران عدد منها»
على رغم هذه المتطلبات البسيطة التي تحتاجها الجسرة، فإنه لا يمكن وضعها (الجسرة) في موضع المقارنة مع قريناتها من القرى المجاورة... فسحر المكان، والإبداع الهندسي للمنازل، والتخطيط العصري للشوارع، تلك العناصر وغيرها امتزجت لتجعل من الجسرة «قرية» نموذجية
العدد 396 - الإثنين 06 أكتوبر 2003م الموافق 09 شعبان 1424هـ