الرد الإسرائيلي على عملية الجهاد في حيفا يمكن قراءة معناه السياسي من خلال تفكيك الرموز التي تريد ارسالها تل ابيب الى دمشق والعواصم العربية. فبعد أن كانت حكومة ارييل شارون تحمّل السلطة الفلسطينية مسئولية أي عمل تقوم به الفصائل انتقلت الآن الى توسيع رقعة الاتهام لتشمل العواصم العربية اضافة الى ياسر عرفات. فالرد هو مجرد هروب سياسي الى الأمام يريد تصعيد المواجهة مستفيدا من الوجود الأميركي في العراق. الرد الذي جاء في 5 اكتوبر/تشرين الأول 2003 كان متوقعا... كما كان 6 اكتوبر 1973 يوما متوقعا. الكل كان ينتظر ذلك اليوم آنذاك. لم تكن الأمة على موعد مع الانتصار كانت تريد كسر الهزيمة أو الأخذ بالثأر من يوم 5 يونيو/حزيران 1967.
بين 1967 و1973 عاشت الأمة أقسى لحظات حياتها. ففي السنوات الست ضاعت فلسطين (كل فلسطين) وضاعت سيناء (كل سيناء) وصولا الى الضفة الشرقية من قناة السويس، وضاعت الجولان (تقريبا كل الجولان) وصولا الى كيلومترات من مداخل دمشق وأبوابها الجنوبية.
بين 67 و73 اندلعت الفتن وتصاعدت المقاومة الفلسطينية واندلعت حوادث الأردن في سبتمبر/ايلول 1970 وهو الشهر (والسنة) الذي رحل فيه جمال عبدالناصر.
بين 5 يونيو و6 اكتوبر حصلت ايضا الكثير من التغيرات السياسية في الأنظمة العربية، ففي تلك الفترة وقعت سلسلة انقلابات جاءت بالقذافي الى السلطة في ليبيا وحزب صدام حسين الى الحكم في بغداد... وأيضا حصل في الفترة المذكورة ما عرف بحرب الاستنزاف في قناة السويس وظهور دبلوماسية أميركية نشطة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وأخيرا تبلور أول مبادرة سلمية حملت اسم المبعوث الأميركي ويليام روجرز. وأيضا وهذا هو الأهم (وربما الأخطر) قام الرئيس أنور السادات بطرد الخبراء السوفيات من مصر الأمر الذي اشاع أجواء الاحباط، وكاد أن يسقط خيار الحرب (الثأر) من قاموس المعادلة السياسية.
كان الجميع ينتظر ذاك اليوم على رغم أجواء اليأس والاحباط وطعم الهزيمة وغيرها من هموم وشجون أسهمت في تلبيد أجواء الأمة بالاضطرابات العامة من بيروت الى القاهرة. لم يكن بالامكان وقف الاهتزاز إلا بإعادة الدم المهدور وبعض كرامة داسها الجندي الاسرائيلي في يوم 5 يونيو.
كان لابد من يوم آخر. فالأيام مداولة والأمور لا يمكن أن تبقى كما هي. والأمة لم يعد بامكانها الانتظار... فهي كانت على موعد آخر وفي يوم آخر.
وكان 6 أكتوبر. ففي الساعة الثانية والنصف من بعد ذاك اليوم الرمضاني وقبل ساعات قليلة من الإفطار بدأت مدافع تشرين تضرب مواقع العدو من الجولان على الجبهة السورية الى السويس على الجبهة المصرية.
انه يوم العبور. العبور من الهزيمة الى الانتصار. هكذا كان الحدس، أو هذا هو التوقع الذي كانت الأمة تنتظره. ولكنه كان يوم عبور من ضفة الى ضفة. فالعبور كسر ذل الهزيمة ولكنه لم يجلب الانتصار. فالحرب حركت مفاوضات السلام ولم تحرر الأرض. والحرب التي توقفت في منتصف الطريق انتجت نصف انتصار ونصف هزيمة وكذلك أبرزت معادلة نصف سلام ونصف حرب.
حرب اكتوبر بدأت في رمضان ولم تكتمل فهي لم تتقدم لتتحول الى انتصار كامل حتى يتحقق السلام الكامل، ولم تتراجع الى مواقعها السابقة حتى تتحول الى هزيمة كاملة.
حرب اكتوبر لم تكتمل وتوقفت عقارب الحرب والسلم منذ تلك الأيام الرمضانية ليعود الزمن يدور دورته بعد 30 عاما من رمضان. الآن عاد رمضان ليتصادف ثانية مع اكتوبر. وربما بهذه المناسبة ردت «اسرائيل» على عملية الجهاد الاسلامي في حيفا بهجوم سياسي على معسكر تدريب كما تقول في سورية. الرد الاسرائيلي هو رسالة سياسية لكسر تلك الحلقة بين دائرة الحرب ودائرة السلم. فالحرب الرمضانية قبل 30 سنة لم تكتمل عناصرها العسكرية ولا شروطها السياسية. فهي توقفت في منتصف الطريق ليبدأ هنري كيسنجر خطواته (خطوة خطوة) على ايقاع القرار الكبير الذي اتخذته منظمة دول الأوبك (المنتجة للنفط) برفع أسعار البرميل الواحد أربعة أضعاف. منذ تلك الأيام اتصلت معركة النفط بمعركة فلسطين وباتت الجبهة العسكرية ممتدة ومتواصلة من الخليج الى «وول ستريت» في نيويوك.
الآن وبعد 30 سنة على حرب رمضان، بدأت تظهر علامات يوم العبور من ضفة الى أخرى. فنحن الآن ندرك معنى الوقوف في منتصف الطريق وبين ضفتين. فالمعركة لم تنته لا على جبهة النفط ولا على جبهة فلسطين. والرد السياسي الاسرائيلي على الجبهة السورية هو رسالة تريد كسر تلك الحلقة وحسم الخيارات بين حرب أو سلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 395 - الأحد 05 أكتوبر 2003م الموافق 08 شعبان 1424هـ