الكتابة هي لعبة مع الموت، وقليل هم الذين يجأرون بالكلمة الصادقة التي تعبر عن ضعفاء المجتمع في زمن أصبح فيه العالم، بمن فيه المثقف، يعيش على بيع أكياس من الأوراق والمديح وتوزيع الصكوك. ما أسهل على الصحافي أن يصبح مدجنا أو انتهازيا، وما أصعب أن يحتفظ بتوازنه في سبيل وطن يعيش على الحقيقة وعلى صدق الكلمة بلا رتوش أو تزييف. من السهل أن يعيش المرء في جو حريري أخاذ، ومن الصعب أن يتحمل البقاء في فم التنين أو أن يجلس بين أسنان التمساح. بالأمس حاول بعض المتمصلحين ممن رغبوا في التموقع بين زوايا المناصب أن يخلقوا وشاة بين جمال عبدالناصر ونزار قباني بعد كتابته قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» عندما راح يردد فيها:
«أنعى لكم:
كلامنا المثقوب كالأحذية
القديمة
ومفردات العهر والهجاء
والشتيمة
أنعى لكم
أنعى لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى
الهزيمة».
الحملة دخلت نطاق الوشاية الرسمية ولكن على رغم ذلك تبقى الكلمة الحرة صدقية كل شيء.
كثيرون من مثقفينا رفضوا أن يقفوا موقف الحياد من جرائم ترتكب بحق إنسانية الإنسان. ودخل عادل حمودة معركة مع الجنزوري... رحل الجنزوري وبقي عادل. ودخلت توجان ضد أبوالراغب، وبقيت توجان. وحاول النشاشيبي إلقاء الحبر الأسود على تاريخ محمد حسنين هيكل، وبقي هيكل. وهكذا فعل بالحلاج وحورب جاليليو وكفر الإمام الغزالي.
أمام الحقوق لا يمكن أن يبقى من يحمل ضميرا مدقوقا كالمسمار في الحائط، لا يحرك ساكنا ليموت كما يموت البعير في الربع الخالي أو كما تموت السائبة، تخرج من العالم ولم تعرف إلا حزمة البرسيم. ليس هذا نوعا من النواح الداخلي أو بكاء على لبن مسكوب، ولكن الناس تعودت، بل عودها التاريخ، بعد طول معاناة ألا تمنح أذنها لمن يكون زئبقي الكلمات، يلونها مع تلون التاريخ وتغيُّر البطولات. والثقافة العربية والمثقف العربي كثيرا ما يمارس دور شاهد الزور تجاه قضايا الأمم، فكم من عربي مازال يلمّع قبح الأخطاء؟ ألا يوجد بيننا عرب مازالوا يلمّعون وجه «إسرائيل»؟!
ولكن في نهاية المطاف يخسر الانكشاريون وبائعو الكلمات ويبقى ما ينفع الإنسان ويمكث في الأرض، وحياتنا في أن نحب ديننا وأوطاننا.
رحلة قضيتها بين الصحافة والناس، وشعرت من خلالها بحب البحرينيين للبحرين، وتيقنت بعد طول لقاء ولقاء بأن هذا البلد الكريم جميل بشعبه وبتحسسه لأوجاع أمته، وبأن الولاء والحب - إلى درجة الهيام - لهذه الأرض يزداد مع الأيام ويبقى يتجذر في الأرض وقد ينبت حتى في الصخر. وقديما عندما سئلت بدوية عن سر شغفها بالصحراء على رغم قسوة الحر وطول الظمأ، قالت وعينها في الوطن:
وقد تعشق الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وطن
وقديما قال نزار وهو يطل ضيفا على البحرين، قائلا:
«أتذكر أني قبل أعوام زرت البحرين فقلت إن بحرا من العشق يغرقني، فكيف لي أن أواجه عشق البحرين؟».
وكل عام والبحرين بألف خير
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 355 - الثلثاء 26 أغسطس 2003م الموافق 27 جمادى الآخرة 1424هـ