تتزايد التهديدات الأميركية لسورية وخصوصا بعد الموقف الذي اتخذته في معارضة الحرب على العراق، وأساس هذه التهديدات معارضة سورية السياسة الأميركية إزاء العراق، وما تتخذه سورية من مواقف في الموضوع الفلسطيني، وكلاهما يضاف الى ما تصفه الولايات المتحدة بـ«الدعم السوري للارهاب» طبقا لما تزعمه وزارة الخارجية الأميركية في التقارير التي تصدرها منذ سنوات طويلة، وأحيا الموقف الأميركي ضد سورية، ثلاثة موضوعات، كانت مطوية في ملف العلاقات الأميركية - السورية، أولها: موضوع داخلي عن طبيعة النظام السوري الذي يصفه الأميركيون بـ«اللاديمقراطي»، والثاني: موضوع سعي سورية الى اسلحة الدمار الشامل، والثالث موضوع الوجود السوري في لبنان.
وبطبيعة الحال فقد، استغلت واشنطن في الاشهر الاخيرة هذه النقاط للضغط على سورية في سياق إجبارها على التوافق مع السياسة الأميركية في المنطقة وفي العراق خصوصا، وراوحت الاستجابة السورية لسياسة واشنطن بين حدي الموافقة والتوافق مع بعض حيثيات السياسة الأميركية وصولا الى الاستمرار في معارضة بعض السياسات مع تأكيد ضرورة استمرار الحوار بين دمشق وواشنطن عن القضايا موضع الخلاف ومن أجل تطوير العلاقات الأميركية - السورية وسيرها في منحى ايجابي، يأخذ في الاعتبار مصالح الطرفين من جهة والاحتياجات الموضوعية للمنطقة، وكلاهما لايتوافق مع سياسة الإملاء والفرض التي تمارسها واشنطن، ليس إزاء سورية فقط، بل حيال كل السياسات التي لا تسلم بوجهة النظر الأميركية، الأمر الذي جعل العلاقات السورية تأخذ مسارا متوترا في الاشهر الاخيرة مع استمرار الاتهامات والتهديدات لسورية.
وثمة ثلاث نقاط أساسية، تجعل الموقف السوري أقل قوة في مواجهة التهديدات الأميركية، أولها: انتقال الولايات المتحدة لتصير «دولة مجاورة لسورية» من خلال الوجود العسكري الأميركي في العراق، والثانية: ضعف الموقف العربي والدولي المعارض لسياسة واشنطن في المنطقة وفي العراق خصوصا في ضوء ما رافق العدوان الأميركي - البريطاني على العراق، والنقطة الثالثة والاهم، تتعلق بسورية لجهة تأخر النظام فيها عن القيام بإصلاحات جوهرية، تشمل السياسة الداخلية بمحتوياتها السياسية والاقتصادية، والسياسة الخارجية بما تعنيه من صوغ سياسات تتصل بدول الجوار، ومنها العراق وسورية و«إسرائيل».
والحق فإن السياسة السورية، سعت من خلال توافقات جزئية مع سياسة واشنطن الى التهدئة مع الأخيرة، ثم أضافت الى ذلك إجراء تغييرات في علاقاتها مع دول الجوار، كان منها اعلان عدم تدخلها في الشأن العراقي، والقيام مرات باعادة الانتشار العسكري والامني في لبنان، وتخفيف مستوى التدخلات السورية في الشئون اللبنانية الداخلية، والتأثير على مواقف وسياسات حزب الله اللبناني والفصائل الفلسطينية التي توجد في سورية ولها مكاتب في دمشق، إذ تم اقفال المكاتب الفلسطينية، وانتقال حزب الله الى مستوى معين من التهدئة على جبهة الجنوب اللبناني، ثم خطت سورية باتجاه اعلان دعم مواقف القيادة الفلسطينية بما يتعلق بـ «خريطة الطريق»، تلاها التوجه الى تحسين العلاقات مع القيادة الفلسطينية، وهو أمر مرتقب مع الزيارة المتوقعة لرئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس في سبتمبر/ ايلول المقبل.
إن المحتوى العام للخطوات السورية السابقة، يتضمن تبديلا في المواقف والسياسات، لكنه بنظر الولايات المتحدة «غير كافٍ» في تحولات السياسة السورية، التي مازالت من وجهة النظر الأميركية بحاجة الى خطوات أبعد في العلاقات الاقليمية، ومنها التوافق مع السياسة الاسرائيلية في موقفها من تسوية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وفك الارتباط مع السياسة الايرانية، ثم التوافق مع الواقع الجديد في العراق تحت الاحتلال.
وكما هو واضح في الرؤية الأميركية للسياسة السورية، فان التبدلات المطلوبة في سياسة دمشق الاقليمية، تشكل عقبات يصعب على دمشق اجتيازها في ظل المعطيات الإقليمية والدولية القائمة، وهذا يعني، أنّ على دمشق التوجه إلى خيارات أخرى، هي خيارات داخلية، بعد أن أغلقت - او كادت - خياراتها الخارجية، المحكومة بضعف الموقف العربي والدولي، وبالقوة الأميركية الطاغية.
إن خيارات سورية الداخلية، تتمثل في إجراء تبدلات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، تستند أساسا الى الإصلاح، وهو قضية توافق عليها السوريون في السنوات الثلاث التي انقضت من عهد الرئيس بشار الأسد، غير أن هذا التوافق لم يصل إلى نتيجة عملية بفعل عوامل كثير معقدة ومتشابكة، لكن من دون الدخول في الإصلاح من غير الممكن تجديد الخيارات السورية في المضي نحو سياسات خارجية، تستند الى معطيات محلية، لعل الأهم فيها تبديل طبيعة السلطة والعلاقات السياسية القائمة من خلال توسيع مشاركة الطيف السياسي في بحث وتقرير ما تحتاج إليه البلاد لتصفية آثار المرحلة السابقة، ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، ويؤدي الانخراط في الاصلاح السياسي إلى التوجه نحو اصلاح اقتصادي - اجتماعي، قاعدته انهاض الاقتصاد السوري واخراجه من استعصاءاته الوثيقة الصلة بواقع سوء التخطيط والتنفيذ والفساد وهدر الامكانية، واعادة توزيع الثروة الوطنية بما يضمن إحياء الطبقة الوسطى في موقعها الثقافي والاجتماعي.
ولاشك في أن تحولات داخلية بهذا المحتوى من شأنها تعزيز قوة سورية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما أن من شأنها إعادة رسم موقع سورية في خريطة المنطقة، وفي العلاقات بين سورية وبقية الدول، ولهذه التحولات دور مهم في اسقاط الضغوط الأميركية، ولاسيما المتصلة بطبيعة النظام، ما يؤهل سورية لتجاوز عتبة التهديدات الأميركية، ويجعلها على قاعدة اخرى في العلاقات مع واشنطن
العدد 355 - الثلثاء 26 أغسطس 2003م الموافق 27 جمادى الآخرة 1424هـ