قال لي مدير عام المكتبات العامة بوزارة التربية والتعليم منصور سرحان وأنا في مكتبه: «إن هناك رجالا يستحقون التقدير والاحترام فهم متعاونون فعلا مع كل ما يخدم الوطن. إنه - للأمانة - ساعدنا بمجرد أن طلبنا منه دفع مرتبات عدد من موظفات الكمبيوتر إذ كنا بحاجة إليهن لتكثيف عملهن في المكتبة العامة لإعداد بعض الدراسات، ولم يكن على بند الوزارة ما يمكّنني من دفع أجورهن الإضافية».
فلما سألته عمن تتكلم قال: «عن مدير عام شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات مصطفى السيد»، قلت له: «تقصد صاحب نظرية (MOSIF)؟» قال: «نعم».
وحكى عميد كلية الهندسة حسين المدني - وكان في زيارة لي بعد عملية القلب التي أجريت لي - عن مشروعه المتميز بشأن الاختراع الذي يعكف عليه هو وأحد زملائه في الجامعة إذ علمت منه أنه حين نشر البحث في إحدى المجلات العلمية البريطانية عن مشروعهما كان في مقدمة من اتصلوا به لدعم المشروع مؤسسات إسرائيلية، غير أنه تجاهلها ما يكشف مدى متابعتهم.
والمهم أن الاختراع لو نجح فعلا فإنه سيكون ثورة حقيقية في عالم توفير مياه الشرب، إذ هو يعتمد على توصيل الحكومة لمياه البحر إلى المنازل، ويتم تركيب هذا الجهاز الصغير على الأنبوبة فيحول الجهاز مياه البحر إلى ماء حلو صالح للشرب. وكشف أنهما في المراحل الأخيرة من اختراعهما الذي يحوّل الماء المالح إلى ماء حلو يكفي كل احتياجات المنزل. ولما سألته عن مدى احتياجهم إلى مبالغ مالية لاستكمال المشروع وإنجاحه قال: بين 30 و40 ألف دينار، فسألته: ألم يساعدكم أحد؟ أجاب: فقط مدير عام شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات مصطفى السيد. قلت صاحب نظرية (MOSIF) قال: نعم، وأضاف صحيح إن المبلغ الذي قدمه كان في حدود صلاحياته ولم يصل الى المستوى الذي نحتاجه إلا أنه كان أكثر إحساسا بأهمية المشروع من غيره وأولهم.
لذلك لم أتعجب إطلاقا عندما سمعت بفوز شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات في العام الماضي بجائزة محمد بن راشد آل مكتوم للإدارة العربية عن فئة المؤسسة العربية المتميزة لعام 2002، ولم أتعجب كذلك لتحقيق أرباح في النصف الأول من هذا العام بلغت 48 مليون دولار على رغم وجود شركات عربية منافسة كثيرة والسوق العالمية مازالت تعاني من ركود المشكلات الإقليمية في الخليج، وذكرني ذلك بالمثل الشعبي القائل: (الحيّ يُحييك)... مصطفى السيد الذي على وشك إصدار كتاب (مفتاح النجاح الإداري للإدارة الإستراتيجية) وهو البحث الذي قدمه في رسالته للدكتوراه. والمتتبع لهذه الرسالة يتضح له أنه تم الاعتراف بها عالميا إذ بدأ تدريسها في بعض الجامعات المحلية وحتى الأجنبية ما يؤكد مدى نجاح هذه النظرية.
فما هي نظرية (MOSIF) وعلى ماذا تعتمد من خطوات لإنجاح أية مؤسسة صناعية كبرى مثل صناعة البتروكيماويات؟
الشطارة لا تأتي من قبل أية إدارة ان لم تتعرف على ماهيّة النظرية بل على كيفية تنفيذها، وحين تتمكن من تنفيذها بشكل دقيق وتحقق الآمال المرجوة منها بتحقيق أرباح وسط سوق تنافسية فهنا يكمن النجاح في قدرة هذه الإدارة وكفاءتها وإدراكها لهذه النظرية.
إن من أهم علامات النجاح في مثل هذه الصناعات الكبرى والحساسة قدرة الإدارة على تخفيف كاهل المصنع بالتقليل من تكاليف عملية التشغيل وبالتالي أسعار الإنتاج من جهة، وجعل العناصر العاملة تواصل عملها بجد وحب من خلال الإحساس بأنه يعمل لنفسه ويعرف كيف يحافظ على سلامته. فالآليات الثلاث تخفض كلفة الإنتاج، ويأتي من بينها كيفية محاولة تصنيع بعض قطع الغيار في الداخل ما يساعد على تقليل التكاليف.
فالأداء الجيد ومن خلال حماس العاملين وإحساسهم بضرورة العمل الجاد، وقدرة الإدارة على تشجيع العاملين في مثل هذه المصانع على أن يعرفوا كيف يحافظون على سلامتهم على رغم أدائهم الجاد كلها عوامل نجاح حقيقية لأية مؤسسة صناعية.
بهذه الآليات تكون الإدارة قد نجحت في تحقيق الأهداف التي تقام من أجلها مثل هذه الصناعات.
إننا نتذكر صحة نظرية السيد من أن قمة النجاح في مثل هذه المصانع تكون عندما يعرف أي قيادي كيف يحسّس عماله وموظفيه بأنهم جزء من هذا المصنع، ويعرف كيف يجعلهم يحبون العناصر التي تدير هذا المصنع ويشعرهم بأنهم شركاء فيه.
هذه الحكاية تؤكد صحة نظرية مصطفى فقد قرأت في الستينات ضمن عمود يومي في صحيفة «أخبار اليوم» المصرية كان يكتبه أحد الكتاب البارزين اسمه حسين فهمي وهو غير حسين فهمي الممثل السينمائي والتلفزيوني، وذلك عندما كنت طالبا في الجامعة هناك. يقول الصحافي ان عمال أحد المصانع الكبرى في شبرا المظلات التي كانت تضم أكثر من عدة آلاف من العمال قرروا الإضراب عن العمل لسبب بسيط هو أن الدولة قررت أن تنقل المدير العام للمصنع إلى مصنع آخر في حلوان ما أزعج عمال المصنع فقاموا بالإضراب احتجاجا على تصرف الحكومة.
ويقول الكاتب إن الذي نعرفه أن هناك عداء تقليديا بين العمال والمدير فما الذي قلب هذه المعادلة؟ ولذلك - كما يقول الكاتب - أخذت أوراقي وتوجهت إلى موقع المصنع لاكتشف سبب هذه العلاقة الحميمية التي تربط العمال بهذا المدير الذي قلب المعادلة التقليدية. وعندما دخلت هالني كبر المصنع ورأيت بابا مفتوحا أمامي فلم أتوقع على الإطلاق أن يكون هذا هو مكتب المدير العام الذي يضرب العمال عن العمل بسبب رغبة الدولة في نقله، فسألت إحدى العاملات اللاتي رأيتهن: أين مكتب المدير؟ فقالت: المكتب الذي مررت به، فعدت فلم أجد سكرتيرة ولم أجد شيئا من فخامة المكاتب التي يستخدمها بعض من هو مدير على ربع هذا المصنع. المهم أنني طرقت الباب فأشار إليّ بالدخول، وقال: تفضل بالجلوس. فجلست، وكان أمامه عامل يتحدث معه فسمعت هذا الحوار:
المدير: إزاي ابنك المريض دلوقتي؟
العامل: الحمد لله بقى كويّس بعدما أخذته للمستشفى.
المدير: هل أعطوك السلفة اللي طلبتها؟
العامل: نعم، وقدرت أدفع كل تكاليف العلاج، واشتريت الأدوية المطلوبة وأشكرك على مساعدتك لي.
المدير: مُش محتاج سلفة ثانية ولا حاجة دا حقك؟ مش عايز تشكرني، إنتو اللي وراء أرباح المصنع وبفضل نشاطكم، انتو ربنا يدّيكم القوة اللي ورا كل الانجاز ده.
العامل: ربنا يديّك الصحة يا بيه.
المدير: شوف يا بني في أي وقت عايز أي سلفة أو حتى مساعدة مني عشان أكلم الدكتور بنفسي ما تتأخرش وطمّني أول بأول على صحة ابنك.
فشكره العامل وخرج.
يقول الصحافي أشار إليّ بعد ذلك لأتكلم معتذرا عن التأخير، يقول الصحافي إنني لم أضيع وقته ووقتي بعد ذلك ولم أتحاور معه، فقلت له: السؤال الذي كنت أود الإجابة عليه عرفته من المشهد الذي رأيته أمامي.
ثم يعلق قائلا: اتضح السبب أمامي من معاملته مع هذا العامل وكيفية خلق علاقة اجتماعية حميمية مع عماله، فهو واحد منهم ويسأل عن صحتهم يتعاون معهم ويقف إلى جانبهم في الملمات ولا يبخل عليهم ما يجعل العمال يشعرون أن المصنع ملك لهم وهم شركاء فيه.
ويضيف الصحافي إن محبة العمال له تأتي من منطلق أنه لا يترفع عنهم وبابه مفتوح لهم وهو أب وأخ لهم، أليس من حق مثل هذا المدير أن يقدم العمال على الإضراب عن العمل من أجله؟ ويضيف إن المدير الناجح هو ذلك الذي يسأل عن أوضاعهم الاجتماعية ويتعاون معهم ولا يكتفي بالأمور الإدارية فقط فهذه هي ميزة المدير الناجح.
وهذا ما يفعله مصطفى السيد مع عماله فكما سمعت أنه يشجعهم ويحفزهم، ولا يبخل بتقديم هدايا رمزية مشجعة لكل من يبدي مزيدا من الحماس للعمل، وهذا ما جعل المصنع يحقق أرباحا على رغم المنافسات الشديدة والركود النسبي الحالي وبلاوي الاحتلال الأميركي للعراق وما صاحبه من زيادة في التأمين على السفن إضافة إلى الهلع الذي أصاب الناس.
هذا جزء من نظرية (MOSIF) التي اكتشفها مصطفى السيد في رسالته للدكتوراه. فالمعاملة الحسنة، والتشجيع، وإحساس العامل بضرورة الحفاظ على المصنع وأداء المصنع وإنتاج المصنع أحد أهم العوامل، وهذه إحدى آليات نظريته التي استقاها من خلال خبرة طويلة في المجال الصناعي والإداري فاقت الأربعين عاما إذ إنه كلما أحس العامل بالحفاظ على سلامته أثناء العمل وإبداء الحماس والجدية المطلوبة في العمل فذلك يعود ذلك لمصلحته ولمصلحة المصنع والإدارة تقدر له ذلك، إذ ان نظرية (اللي يعزي واللي ما يعزي ياكل من عيش الحسين) لا تشجع على الإتقان ويختفي فيه الحافز الى التطوير والأداء السليم مثلما اضطر الاقتصادي الماركسي في الاتحاد السوفياتي (سوسولوف) عندما وجد فشل نظرية (من كلٍّ بقدَرِ طاقَتِهِ، ولكلٍّ بقدر حاجَتِهِ) أضر بالتنمية وبجودة الإنتاج، دعا إلى ضرورة خلق الحافز.
فما هي نظرية أو فلسفة (MOSIF) هذه؟ إنها ترى حسب السيد «ان الإدارة مزيج من الفن والعلم» وهي تتطلب فن الموهبة البشرية في مجال معالجة المشكلات والخصائص الشخصية المعقدة والمتشابكة والفن الأكثر تعقيدا وتشابكا المتمثل في جعل الآخرين سعداء راضين، والإدارة تستلزم الدقة العلمية مثلها في ذلك مثل الرياضيات وذلك عند تقديم الخيارات والفرص في مجال الأعمال أو اتخاذ القرارات الاستراتيجية، ذلك ان الخطأ الاستراتيجي في الحساب في مجال الأعمال يمكن أن يكلف غاليا من حيث تأثيره على نشر واستخدام الجانب الأكبر من موارد المؤسسة.
فإلامَ ترمز (MOSIF) في كلمة واحدة؟ إنها ترمز إلى:
M: المهمة أو الرسالة والرؤية.
O: الأهداف والغايات.
S: صياغة الاستراتيجية بمعنى الكيفية المُثلى لتحقيق الأهداف المطلوبة.
:I تطبيق الاستراتيجية ومتابعة التقدم.
F: التغذية المرتدة لتقييم الأداء واتخاذ الإجراءات التصحيحية.
ويختصر السيد فكرته فيقول: إن المفاهيم التي تصفها MOSIF تضم الدورة الكاملة للتحول الاستراتيجي التنظيمي، وعمل الإدارة على التركيز على نتائج أفعالها وإجراءاتها وكيفية تأثيرها على المحصلة المستقبلية المرغوبة.
إن نجاح السيد وزملائه في إدارة شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات وتحقيق هامش جيد من الربح وسط المنافسة الإقليمية والدولية الشديدة تأكيد لنجاح نظريته.
وخير من شخّص ذكاء مصطفى السيد هو الأمين العام لجبهة التحرير الوطني البحرينية في أواخر الخمسينات أحمد الذوادي وكان عمر «الدكتور» آنذاك لا يزيد على 12 عاما حين نُقلت إليه عبارة قصيرة لذلك الصغير عن الوطن وكانت تنم عن حسّه الوطني - لا أذكرها تحديدا - فقال: «إن هذا الولد سيكون شعلة في المستقبل»، ولم يخب ظنه كما يبدو، إلا أنه صار شعلة في السياسة الاقتصادية ولم تتمكن الجهات السياسية أن تجره حتى بعد أن كبر لتحوله إلى شعلة سياسية توجهه كما تريد. إنما ظل كما يريده هو ونجاحه في خدمة اقتصاد وطنه أيضا يعطيه الحق في أن يكون شعلة
العدد 352 - السبت 23 أغسطس 2003م الموافق 24 جمادى الآخرة 1424هـ