بينما يبحث الأميركيون عن حلّ لمشكلاتهم في العراق، ويتأرجح مجلس الحكم الانتقالي بين عوامل البقاء وعوامل الزوال، يحتار الشعب العراقي بين ما يريد وما لا يريد! فهل يحقق المجلس له ما يريد؟ ما سيؤهله ليكون بمثابة المدخل والمقدمة لحل ناجع للعراق والأميركيين.
تتلخص مشكلات الأميركيين في العراق في جانبين، اقتصادي وبشري، وكل يوم يأتي من دون الوصول إلى حل حقيقي، يعتبر استمرارا للنزيف المالي والبشري بالنسبة إليهم. ففي الجانب الأول يلاحظ أن الأميركيين اكتشفوا أنهم لن يتمكنوا من تذوق الكعكة العراقية إلا في سنة 2005 - في أحسن الأحوال - وكي يستفيدوا من كنز العراق النفطي يجب عليهم استثمار مبلغ يزيد على 1,2 مليار دولار خلال 18 شهرا لتغطية نفقات تأهيل البنية التحتية لتصدير النفط وذلك لتحقيق عائد نفطي يقدر بـ 13 مليار دولار في العام 2004.
وفوق ذلك، وكما يقول الجنرال تومي فرانكس، يتطلب أمر إدارة العراق حاليا الالتزام بأكثر من 150,000 جندي بكلفة أكثر من مليار دولار أسبوعيا ولمدة تستمر أربع سنوات، ناهيك عن كلفة إدارة حكومة العراق وإعادة إعماره ما سيكلف مليار دولار شهريا بحسب التقديرات الأولية للأمم المتحدة قبل الحرب.
وهذا بعض مما يدفع الإدارة الأميركية إلى إشراك قوات من الأمم المتحدة في العمليات المستقبلية في العراق، وقد يكون لتسليم جنوب العراق إلى قوات بولندية وإيطالية وإسبانية تخفيفا عن الكاهل الأميركي لبعض من كلفة هذه الحرب.
أما المشكلة البشرية المتمثلة في تزايد عدد القتلى والجرحى من الأميركيين، فانها مرعبة للإدارة الأميركية، وخصوصا أن تطور عمليات المقاومة كما وكيفا يجعل الإدارة تعيد النظر في حساباتها مرة تلو أخرى، بل قد يدفعها ذلك إلى التنازل عن بعض من التشدد الذي أظهرته هنا أو هناك، بل ان اقتراب الانتخابات الأميركية (2004) قد يجعل مما كان مرفوضا أميركيا بالأمس القريب، مقبولا من الغد القريب أيضا.
فعمليات المقاومة بدأت تتخذ شكلا من أشكال حرب العصابات أو مقدمات لها، وهذا ما كشفته التقارير الأميركية نفسها - وقد تكون الحقيقة أكبر من ذلك - فخلال الأسبوع الأخير من شهر يونيو/ حزيران الماضي شن العراقيون هجمات على جنود الولايات المتحدة بمعدل 20 هجمة يوميا في بغداد وحدها. وفي 21/6/2003 أطلق صاروخ اس ايه 7 مضاد للطائرات، يحمل على الكتف، على طائرة شحن للولايات المتحدة من نوع سي 17 بينما كانت تهبط في مطار بغداد، وقد انفجر الصاروخ قبل أن يصيبها. وأنهكت مثل هذه الاحتكاكات معنويات الجنود الأميركيين. وهذه العمليات ودقتها مؤشران على شبه نظاميتها.
وأميركا لا تريد أن تكرر فشل تدخلها في الصومال العام 1992، وكذلك في هاييتي العام 1994 بالانسحاب منهما، بل تريد عراقا مستمرا بأي ثمن كان، وإن حكمه الشيطان، مادام يحقق لهم ما يريدون، ويجمع على ذلك الحزب الجمهوري الحاكم والحزب الديمقراطي المنافس.
فالمطلب الأميركي هذا، كان حافزا لتعجيل ولادة مجلس الحكم الانتقالي في العراق وهي ولادة مبكرة قد تكون خطرة على صحة الوليد وسلامة الأم، ما يجعله معلقا - مؤقتا - بين فرص الموت وفرص الحياة، فما هي عوامل موت هذا المجلس وعوامل بقائه؟
أظهرت تصرفات الإدارة الأميركية في (واشنطن وبغداد) منذ 9/4/2003 إلى اليوم بما يتعلق بكيفية التعامل مع الوضع السياسي العراقي، أنها لم تكن لديها رؤية واضحة عما ستفعله في العراق، ومع من ستتعامل، وكيف ستدير المدن ميدانيا. ويبدو أن سرعة سقوط النظام العراقي أصابتهم بالشلل المؤقت. وهذا ليس تبريرا للتصرفات الأميركية بقدر ما هو محاولة استقراء لما حدث.
لذلك يظهر أنهم لم يكونوا مقتنعين بالتعامل حتى مع بعض الشخصيات العراقية التي أصبحت في المجلس الانتقالي لاحقا، وهو مخرج غير مرغوب فيه أميركيا. لهذا سيكون المجلس قابلا للتغيير أو الإلغاء أو الاستمرار، وسيصبح وسيلة لتخفيف التوترات الداخلية مؤقتا، واستغلاله أميركيا بما يمكن أن يخدم حاليا ومستقبليا، وهذا قد يجعله أيضا ورقة محروقة للزمن المحروق حتى الانتهاء من الانتخابات الأميركية المقبلة.
ومما يقصر من العمر الافتراضي للمجلس غياب التأييد الإقليمي، تحديدا من جامعة الدول العربية ودوله الرئيسية كمصر ودول الخليج وسورية، ومثله عدم تأييد بعض الأطراف العراقية للمجلس، بل إعلان بعضها معارضته له ولأعضائه.
وقد تكون المقاومة للقوات الأميركية عاملا ذا حدين، اما ضاغطا على الأميركيين لبقاء المجلس، أو قاتلا للمجلس وأعضائه لأنهم يمثلون - في نظر المقاومة - الاحتلال الأميركي.
وإذ ان سقوط النظام لم يكن ممكنا إلا بقوة خارجية - والاحتلال نتيجة لها - فعليه يكون سقوط صدام مرحلة أولى بالنسبة إلى العراقيين، وخروج القوات الأميركية مرحلة ثانية، ومن الصعب على الشعب العراقي أن يستوعب مسألة مقاومة الاحتلال سلميا لمواجهة المرحلة الثانية، وهكذا مقاومة لن تكون في مصلحة المجلس الانتقالي، وهنا تكمن خطورة الخبر المنتشر في العراق والقائل «كل من يقتل أميركيا له مكافأة قدرها 5000 دولار».
بالإضافة إلى ما سبق نجد أن احتمال اصطدام أعضاء المجلس ببعض المشروعات الأميركية، والمبطنة بأطماع أميركية، أمر وارد ما قد يجعل من المجلس أداة معرقلة قابلة للإلغاء.
بيد أن للمجلس عوامل تتيح له فرصة الحياة لعمر أطول منها:
أولا: التيارات السياسية التي يتشكل منها المجلس لها قاعدة شعبية وسياسية وعسكرية تتمركز في شمال العراق وجنوبه وبعض من الوسط، وهي المساحة الأكبر من أرض العراق، لذلك نجد أن الأميركيين لا يعانون من أعباء وجودهم في هذه المناطق، بل يتعاملون مع سكان هذه المناطق بسهولة ويسر، فيطرد عنهم شبح الخوف من تكرار التجربة الفيتنامية في العراق.
ثانيا: الفراغ السياسي الحالي يجعل من وجود المجلس ضرورة انتقالية مدعومة بالقوات الأميركية التي ترجمت مضمون الفقرة التاسعة من قرار مجلس الأمن رقم 1483 التي تدعو إلى قيام إدارة عراقية مؤقتة وصولا إلى إنشاء حكومة عراقية شرعية وطنية تتولى مهمات السلطة في العراق.
ثالثا: الخشية العامة - داخليا وخارجيا - من انفلات الأمور الأمنية والسياسية ما يؤدي إلى احتراب طائفي أو عشائري أو ما أشبه.
رابعا: الخشية الأميركية والأوروبية والعربية من مجيء حكم إيراني الهوى تدفع الأميركيين وغيرهم إلى القبول بهذ المجلس كمرحلة انتقالية.
خامسا: تسريع عملية استقرار حياة الإنسان العراقي، فهذا الشعب أنهكته ثلاث حروب خلال العقدين الماضيين، وبحاجة إلى أي قرار أو برنامج يعيده إلى ذاته. فوعد بريمر - كمثال - لأكثر من 250,000 جندي عراقي بتسلم رواتب شهرية لفترة مستقبلية غير محددة يصب في هذه القناة، أو غيرها، كمحاولات توفير الكهرباء والماء والغذاء والدواء، والهدوء الأمني العام.
سادسا: قبول المجلس بالتعاون مع الإدارة الأميركية استراتيجيا، لما فيه مصلحة الطرفين. فإعمار بلادهم يحتاج إلى مليار دولار شهريا من الآن حتى نهاية سنة 2004 (غير متضمنة كلفة بقاء القوات الأميركية)، وإعادة هيكلة الديون العراقية الخارجية المقدرة بـ 100 مليار دولار بما فيها تعويضات الحرب للكويت بحاجة إلى دعم التعاون المقصود هنا.
فإذا كانت الفترة الانتقالية للمجلس تعني عودة الحياة - بكل معانيها - إلى الشعب العراقي ويعم السلام النفسي والسلم الاجتماعي فلماذا يضع البعض العراقيل في وجهه؟، أما ما يقال عن عدم شرعية المجلس! فقد أجاب عليه بعض من أعضائه مثل عدنان الباجه جي ومسعود البرزاني وجلال الطالباني بقولهم: «إذا قارنا بين شرعية الحكم البائد وشرعية المجلس الحالي، نستطيع أن نعطي هذا المجلس نسبة عالية من الشرعية فهو من العراقيين، تم اختيارهم من قبل عراقيين، بعد مشاورات واسعة ومكثفة وهو لم يتم تشكيله من جانب سلطة أجنبية، ويوجد في وقت لا سلطة لقانون في البلاد، ونحن أكثر شرعية بكثير من عدد من الأنظمة التي ساندها العراقيون والعرب في الماضي».
لا يعني ذلك القبول بالاحتلال الأميركي، بل يشير إلى سؤال أهم، وهو: ما الخيارات المتوافرة للشعب العراقي، الاستسلام للواقع الحالي، أم مقاومته بالعنف، أم مقاومته سلميا؟
العدد 352 - السبت 23 أغسطس 2003م الموافق 24 جمادى الآخرة 1424هـ