كأننا إزاء عودة لنوع من الممارسات القديمة لحكومتنا في تخدير المواطنين بشأن التطور التنموي والتبشير من خلال أجهزة الإعلام والصحافة المحلية طوال العقود الأخيرة الماضية، إذ صار المواطن يعتقد مع صباح كل يوم وهو يقرأ مانشيتات الصحافة اليومية عن إقامة هذا المشروع أو ذاك بكلفة عدة ملايين وظهور آلاف الوظائف الشاغرة حتى صارت هذه الأخبار لا فائدة ترجى منها.

وكان النبأ الصباحي يضم عدد الوظائف التي سيوفرها المشروع إذ كانت تصل الى المئات ما كان يخلق الأمل للإنسان، كالعطشان الذي يسير في صحراء بلا ماء فيتراءى له السراب ماء ثم يتلاشى بعد أن يسير خطوات أخرى إذ تتضح له الصورة فما ذلك سوى خيال وسراب ولا يمت الى الحقيقة بصلة. إذ إن كل المشروعات الصناعية وغير الصناعية المفيدة للمواطن البحريني الذي كان يأمل أن تنهي بطالته ويحصل على وظيفة مناسبة تستره وتستر أسرته كانت مشروعات لا تنفذ على أرض الواقع.

وقد هدأ الوضع في المرحلة الأخيرة ولم يعد المواطن البحريني يعيش مرحلة الوهم والسراب السابقة وهي ليست لصالح المواطن إذ يفضل أن يوضع في الصورة الحقيقية خير من أن يخدع من خلال تصريحات مُخدرة.

ويبدو أن الأوروبيين على حق حين يقبلون من إداراتهم كل شيء إلا الكذب، ولم أكن أعرف حكمة ذلك إلا بعد أن فكرت بعمق في السبب فاتضح لي أن عدم وضع المواطن في الصورة بأوضاع البلاد الحقيقية لا يساعده على معرفة ما يجري ما لا يفسح المجال أمامه للمشاركة في وضع الحلول، وهذا لا يتأتى إلا من خلال وجود دستور يحفظ له حقوقه ومجلس نيابي قادر على المشاركة الجادة في وضع الحلول لمشكلاته.

إن خداع المواطن - كما ترى الشعوب الأوروبية - وعدم مصارحته قد يجعله يغرق ويتورط في أزمات خطيرة، فلهذا حاسب الشعب الأميركي بيل كلينتون لكذبه لا لأنه كان على علاقة بموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، ولهذا فإن إصرار الشعب الأميركي على محاسبة كلينتون جاء لأنه رفض أن يعلن الحقيقة في البداية ثم تسامح معه بعد أن اعترف.

إن ما يجري هذه الأيام هو عودة إلى أجواء السنوات الماضية حين كان يتم توزيع المخدر الإعلامي الذي كان يراد من ورائه ما كانت تفعله الأعرابية بغلي الماء في القدر الخالي من الطعام لخداع أطفالها الجياع بأنها تطبخ لهم حتى يناموا.

أذكر مرة أن رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سأله أحد الصحافيين: لماذا لا تحذو حذو كثير من الدول العربية المجاورة بخلق جهاز مخابرات كبير؟ فأجاب ببساطته البدوية الرائعة: «شو حقه؟ حنا والشعب متفاهمين وما بينا مشاكل فإن كانت الدولة قادرة على تحقيق طموحهم وتعطيهم كل ما يحتاجون فهي لا تتأخر، وإذا ما كان عندنا انخليهم يشوفوا الدفاتر».

هذا الكلام سمعته بأذني، لا أذكره بكل تفاصيله لكن هذا كان فحوى الحوار، وهذا يعني أن الشيخ زايد كان يريد بهذا الحديث أن المكاشفة مع الشعب ووضعه في الصورة بكل حقائقها وتفاصيلها يعني قمة الشفافية وإبعاد القيادة عن مأزق المناورة، وهذا ما يريده المواطن من قيادته.

قرأت خلال أسبوع واحد في الصفحات الأولى لمعظم صحفنا أنباء الوظائف الجديدة التي تتعدى المئات إلى الآلاف لثلاث مرات، وكم يتمنى المرء أن يكون ذلك صحيحا وإلا فقد الثقة في المسئولين وتصريحاتهم .

لنستشهد بأمثلة واضحة... فعلى سبيل المثال في الفترة من 16 إلى 23 أغسطس/ آب قرأت ثلاثة أخبار جميعها في الصفحة الأولى استشهد بخبرين منها.

نشرت الصحف يوم 18 أغسطس الماضي نبأ تحت عنوان «العمل تطرح تفاصيل 1178 وظيفة شاغرة. يقول النبأ:

ربط أحد المسئولين في وزارة العمل والشئون الاجتماعية بين تراجع حدة الاعتصامات وعودة مكتب التوظيف في الوزارة إلى نشاطه «بحثا عن فرص عمل مناسبة للبحرينيين، إضافة إلى المتوافر من الشواغر لدى مكتب خدمات التوظيف. إلى ذلك عرضت الوزارة يوم أمس قوائم تضم 1178 وظيفة شاغرة بمسمياتها الوظيفية ورواتبها المعلنة والشركات التي تحتاج إلى شغل هذه الوظائف فيها.

وقال المسئول : إن هذا النشر يأتي بإيعاز من رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة بانتهاج الشفافية والمصارحة، وقال: «حرصنا على أن نذكر أسماء الشركات والمهن والأجور المعروضة لكل وظيفة موجودة لتتجلى - بوضوح - إسهامات أصحاب مؤسسات وشركات القطاع الخاص في حل قضية البطالة التي نعتقد أنها قضية المجتمع بمختلف قطاعاته وهيئاته». وتبين من هذه القوائم أن ما نسبته 39 في المئة من الوظائف تقع رواتبها في فئة 150 دينارا و47,4 في المئة منها لوظائف تتراوح رواتبها بين 160 و190 دينارا، وما نسبته 12,6 في المئة من الوظائف لتلك التي تقع رواتبها ما بين 200 و300 دينار، أما الوظائف التي تتراوح رواتبها ما بين 310 و550 دينارا فلم تزد على نسبة 0,9 في المئة.

وأضاف أن عددا كبيرا من الوظائف تم استبعادها «لأسباب موضوعية» أهمها الانتهاء من ترشيح شاغلين لهذه الوظائف أو تلك الوظائف التي لم توافق عليها الوزارة لتدني أجورها. هذا إلى جانب الـ 2000 وظيفة التي سبق الإعلان عنها مسبقا والتي تتعلق بخط الصهر الخامس في شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) وبحد أدنى من الأجور ويبلغ 170 دينارا. وقال المسئول إن الوزارة ستوفر حافلتين مكيفتين لتنظيم مقابلات جماعية للباحثين عن عمل مع مجموعة من الشركات التي تقدمت بعروض التوظيف بأعداد كبيرة، وسيرافق المرشحين مرشد توظيف للمساهمة في الإسراع في عملية التوظيف والرد على استفسارات الباحثين عن العمل.

هذا العدد من الوظائف الشاغرة أمر طيب مريح للأعصاب مهما كان شكلها وخصوصا إذا أضيفت إلى الألفين وظيفة المتعلقة بخط الصهر في شركة ألمنيوم البحرين - إن كان صحيحا - يتمنى المرء نشر أسماء المقبولين منهم تماما مثل المقبولين في الجامعة من الطلبة في كل عام. أما الخبر الثاني فأكثر إغراء وإسالة للّعاب، فالعنوان يقول: (11 ألف فرصة عمل في ميناء الشيخ خليفة).

والخبر عن الميناء والمنطقة الصناعية التي يقال ان تكاليف إنشائها تبلغ 200 مليون دينار، ويتم الانتهاء من العمل في المشروع في فبراير/ شباط 2006، وهو على غرار ما أفرحنا به الخبير في أعمال الفضاء الذي يعمل في ناسا بالولايات المتحدة الدكتور الباز حين بشرنا خلال زيارته للبحرين أنه بعد مليون سنة فقط ستتغير الأجواء في منطقة الخليج ويصبح الجو جميلا باردا وستكون هذه الدول صالحة للسياحة. أنا أقول علينا ألا نسكب الدموع على اللبن المسكوب في الماضي خلال العقود الماضية التي ضاعت من أعمارنا، لكني أقول انه لابد من اختزال الزمن وتصحيح ما حدث بشكل سريع للغاية ومن دون أي تأجيل بشتى الأشكال الممكنة.

فالحديث عن سنة 2006 وما بعدها حديث لا يُشبع المواطن ولا يحل «بلاويه»؛ فالعاطل والجائع والباحث عن العمل لا يمكنهم أن يعيشوا بوعود. كم أتمنى ألا يعود المسئولون إلى «الموروفين» السابق الذي كان يوزع على شكل مانشيتات صحافية خلال العقود الماضية؛ لأن أجسام الناس أصبحت بها مناعة ضد هذا النوع من المخدر من كثرة ما تناولته