حتى كتابة هذه السطور أعلنت جهة مجهولة مسئوليتها عن الاعتداء الذي استهدف مقر الأمم المتحدة في بغداد وأسفر عن مقتل 23 شخصا من بينهم المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو دي ميلو، وهو ثاني مسئول في الهيئة الدولية يذهب ضحية هجوم إرهابي بعد مندوب الأمم المتحدة في فلسطين برنادوت الذي اغتالته منظمة صهيونية في نهاية الأربعينات. ووجهت وسائل الإعلام الغربية أصابع الاتهام إلى تنظيم «أنصار الإسلام» الذي تأسس في نهاية العام 2001. ويعتقد خبراء أمن أوروبيون أن هناك صلة بين «أنصار الإسلام» ومنظمة «القاعدة» التي يتزعمها أسامة بن لادن. ووضعت الإدارة الأميركية «أنصار الإسلام» في 20 فبراير/ شباط الماضي على قائمة التنظيمات الإرهابية، ويشار إلى أن التنظيم يحوز على نحو 700 مقاتل منهم 150 على الأقل داخل الأراضي العراقية.
برز دور «أنصار الإسلام» بعد التفجير الذي تعرض له مقر السفارة الأردنية في بغداد، وقال الحاكم المدني في العراق المحتل بول بريمر إن مئات المقاتلين التابعين لهذا التنظيم فروا خلال الحرب إلى إيران ثم عادوا تدريجيا إلى العراق للقيام بهجمات ضد قوات الاحتلال. ويشير المراقبون إلى احتمال أن تحول مجموعة من التنظيمات المناهضة للولايات المتحدة أرض العراق إلى ساحة لتصفية حساباتها مع الأميركيين وطرد قوات الاحتلال من العراق. وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن اجماع خبراء الأمن بأن تنظيم «أنصار الإسلام» عزز وجوده في الفترة الأخيرة داخل الأراضي العراقية، وأعاد تنظيم صفوفه وقالت محطة التلفزة الأميركية (سي ان ان) إنهم حصلوا على تعزيزات بشرية تقدر بثلاثة آلاف مقاتل. في الغضون مازال الحزن يخيم على مقر الأمم المتحدة في نيويورك إذ يجري الحديث عن أسوأ اعتداء تعرضت له الهيئة الدولية واستهدفها بصورة مباشرة، وذلك بعد اغتيال برنادوت في فلسطين على أيدي تنظيم صهيوني سري كان ينتمي إلى مناحيم بيغن وكان يرمي إلى طرد قوى الانتداب من فلسطين. وقال موظف في الأمم المتحدة انه من الصعب التكهن بشأن المستقبل لكن المؤكد أن الاعتداء استهدف الأمم المتحدة لأن البعض ينظر إليها على أنها تخدم مصالح قوى الاحتلال. وأشار الموظف إلى أن كوفي عنان سيعقد خلال الأيام القليلة المقبلة اجتماعا مع أبرز مستشاريه لبحث الخطوات التي ستتخذها الهيئة الدولية لمواصلة مهمتها في العراق غير أن عنان لا يفكر - وفقا لتأكيدات مقربين منه - في سحب موظفي الأمم المتحدة وإنما يريد إقناع الأميركيين والبريطانيين بتحمل مسئوليتهم في فرض الأمن. وقال وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر إن هناك أربعة قرارات دولية صدرت بعد إعلان بوش نهاية الحرب تقرر أن مسئولية فرض الأمن والاستقرار في العراق تبقى على عاتق قوى الغزو وهي في هذه الحال الولايات المتحدة وبريطانيا. وقال عنان إنه مصر على التزام الهيئة الدولية بتقديم مساعدات إنسانية الى العراقيين وخصوصا أن نسبة 60 في المئة من سكان البلد المنكوب يعتمدون على مؤن الغذاء التي تقدمها إليهم الهيئة الدولية. واعترف مستشارون في الأمم المتحدة انهم يدركون التهديدات التي تواجههم في مهمة العراق، وأن البعض ينظر إلى الأمم المتحدة على أنها طرف في الحرب وتقدم خدمات لقوى الاحتلال، ولكن الاعتداء نتجت عنه مشكلة أمنية لموظفي الأمم المتحدة في العراق ومشكلة سياسية للأمين العام في نيويورك. فقد زادت الشكوك بقدرة الهيئة الدولية على تحمل مهمة فرض الأمن والاستقرار في العراق إذا قررت الولايات المتحدة وبريطانيا في المستقبل سحب قواتهما من العراق.
ولا يختلف اثنان في مقر الأمم المتحدة على أن حرب العراق تمت بصورة مخالفة للقانون الدولي ومن دون موافقة مجلس الأمن الدولي، وأنه من الصعب أن تنجح الهيئة الدولية لوحدها في إصلاح الدمار المادي والاجتماعي والسياسي الذي نتج بسبب الحرب. وكانت الأمم المتحدة تنازلت لأطراف الحرب حين أعلنت في مايو/ أيار الماضي قرارا يخول قوى الاحتلال بصورة غير مباشرة إدارة شئون العراق. وهكذا جاء القرار قريبا من الاعتراف بالاحتلال، وكوفئت الأمم المتحدة بالحصول على حق تقديم مساعدات إنسانية إلى العراقيين وظلت تأمل بأن تزداد الحاجة إليها ويُرقّى دورها بحيث تتمكن في المستقبل من نشر قوات «القبعات الزرق» ولعب دور بارز في بناء نظام جديد في العراق. ومن ضمن الحسابات أن الأميركيين والبريطانيين سيواجهون مشكلات صعبة في هذا البلد وسيضطرون بعد وقت إلى سحب جنودهم لأنهم فشلوا في إقناع الشعب العراقي بأنهم أتوا محررين وليسوا محتلين. في واشنطن كما في برلين ولندن وباريس وسائر العواصم الغربية نُدِّد بالهجوم الذي استهدف مقر الأمم المتحدة في العراق. وقال الرئيس الأميركي إن بلاده ستواصل الحرب على الإرهاب وستعمل من أجل القبض على منفذي الهجوم. ويقول المراقبون إن هذا الاعتداء يدفع جورج بوش إلى التمسك بقرار الإبقاء على الجنود الأميركيين في العراق، وذلك على رغم ازدياد المطالبات بعودتهم إلى ديارهم. ويسأل البعض في الولايات المتحدة كم بوسع بوش تحمل حال الفوضى التي تعبث بالعراق؟ يرى البعض أن بوش يجد أن صدقية بلاده مهددة لأن الهدف المعلن لخصوم الولايات المتحدة في العراق هو إجبارها على سحب جنودها، ولكن مع كل هجوم تزداد رغبة واشنطن في الإبقاء على جنودها في هذا البلد؛ لأن بوش كما يقول البعض لا يريد الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الرئيسان السابقان رونالد ريغان وبيل كلينتون. فقد أمر ريغان بسحب الجنود الأميركيين من لبنان بعد اعتداء راح ضحيته أكثر من 200 جندي من قوات «المارينز» في بيروت، وأمر كلينتون بانسحاب جنوده من مقديشو بعد مقتل مجموعة منهم على أيدي ميليشيا محمد عيديد. وفي الحالتين ظهرت الولايات المتحدة ضعيفة أمام العالم واضطرت إلى أن تلعق جراحها من دون أن يواسيها أحد. إضافة إلى ذلك ليس بوسع واشنطن سحب قواتها في الظرف الحالي وترك الأمم المتحدة لمصير مجهول. ويتوقع المراقبون أن ينشأ تنسيق مكثف بين الطرفين ربما يفضي الى حصول الأمم المتحدة على نفوذ أكبر. ثم قد يكون منفذو الاعتداء على الأمم المتحدة نجحوا بما لم تفلح به الإدارة الأميركية وهو نشر الشعور عند الرأي العام بأن هناك جماعات تمارس الإرهاب في العراق. وقد يدفع بوش إلى الطلب من شركائه في الحرب المناهضة للإرهاب تقديم المساعدة والتدخل في العراق تحت غطاء هذه الذريعة
العدد 351 - الجمعة 22 أغسطس 2003م الموافق 23 جمادى الآخرة 1424هـ