مع تصاعد عمليات المقاومة وتدهور الاوضاع الخدمية والحياتية في العراق يشتعل نقاش متعدد الابعاد ليس محصورا بالطبقة السياسية، بل انه يمتد ليشمل كل العراقيين من كل الاطياف ومن شتى الطبقات. وفي إطار هذا النقاش يتردد الآن كلام كثير عن فيتنام أخرى وتقفز إلى الذهن معارك الكر والفر التي يخوضها رجال المقاومة الذين يقاتلون على أرضهم مستعينين بطرق قتالية غير تقليدية ولا مألوفة ويصعب التنبؤ بها في مواجهة جيش كثيف ومجهز بأحدث الأسلحة ويمتلك فعليا زمام السلطة في البلد.
عراقيون كثيرون يتحدثون عن ان الحرب التي أقدمت عليها الولايات المتحدة في العراق كانت ورطة، ومن المؤكد ان بعض الأميركيين يشعرون بأنهم دخلوا مستنقعا. ولكن هؤلاء العراقيين يشيرون إلى انه في غياب زعامة عراقية من طراز هوشي منه (والجنرال جياب)، لا يمكن القول ابدا ان الفيتكونج الذين كانوا ائتلافا من نحو 13 فصيلا يتداخل في تشكيلها القبلي مع الايديولوجي مع الديني مع المناطقي يمكن ان يتكرر نموذجه في العراق. وفضلا عن ذلك كان هناك 1281 كيلومترا من المرتفعات، وحقول القصب، والمستنقعات. والاهم من كل ذلك كانت هناك الصين الداعمة بسكانها ذوي المليار نسمة وبماوتسي تونغ الذي كان يريد ان يضع النمر الذي من ورق في القفص الآسيوي. الآن التاريخ اختلف والكل يخضع للنمر الذي يكشر عن انيابه مستعدا لمهاجمة كائن من كان للحفاظ على سيادته العالمية.
«اذن من الصعب ايجاد عنصر المقارنة بين النموذجين». هكذا يطرح استنتاجه استاذ التاريخ صادق الحلو الذي اقصي من جامعة بغداد بسبب انتمائه السابق إلى حزب البعث الذي حكم العراق طيلة 35 عاما. ويضيف الحلو استنتاجا آخر، ليقول: «حتى عنصر الارادة ليس واحدا في كلا النموذجين، ففي العراق الآن هناك قوى سياسية ترفض انسحاب أميركي مبكر، بل ان اوساطا عراقية تعتبر الأميركيين محررين».
والواقع ان الرفض للاحتلال يمتد إلى شرائح كثيرة من المجتمع العراقي (مثقفون، مهنيون، اناس بسطاء) ولكن معظم العراقيين يرفضون خروج الاحتلال قبل استقرار الوضع واستتباب الأمن وقيام حكومة عراقية قوية.
الكل في العراق يبدو مضطربا ومتناقضا. ونظرة إلى حوائط الجدران تكشف بعض الاضطراب والتناقض، ففي امتداد شارع كان يسمى بـ 14 رمضان سابقا، ولا اعرف على نحو محدد اسمه الجديد بعد التغيير الذي شمل كل شيء، وباتجاه منطقة الاسكان وبالقرب من مبنى متحف حزب البعث السابق خطت على احد الجدران وباللون الأحمر جملة تقول «على الخير والبركة صدام صاير تنكة»، والتنكة في مفهوم العراقيين هي الصفيحة التي تجمع فيها قمامة العائلة. وعلى جدار آخر ربما لا يبعد عنه سوى ثلاثمئة متر خطت عبارة «عاش صدام والاندحار للاحتلال». وفي بداية الشارع ذاته من جهة ضاحية المأمون في بغداد كان يستقر تمثال أحمد حسن البكر، الرئيس العراقي البعثي الذي كان قبل صدام يتولى زمام الحكم في العراق، كتب أحدهم على قاعدة التمثال «سنثأر لك يا صدام» وجاء أحدهم ليغير كلمة «لك» إلى «منك»، قبل أن يتطوع البعض فيهدم التمثال.
هذا الاضطراب والتناقض يمتد إلى الموقف من الاحتلال والمقاومة ومجلس الحكم الذي يخضع لسلطة الاحتلال. خضير عباس الحميري رسام الكاريكاتير الذي تنتشر رسوماته الساخرة في عدة صحف عراقية وعربية قبل سقوط بغداد وبعده يقول: «إن القوى الشيعية السياسية الرئيسية سجلت تاريخيا موقفا متخاذلا في هذه المرحلة، فبعضها امتدت يداها للمحتل متعاونة معه، وبعضها نادت بالجهاد السلمي ورفضت مقاومة الاحتلال». ويضيف: «الشيعة الذين شكلوا طوال التاريخ الإسلامي تيار الرفض واليسارية في مواقفهم سجلوا بهذا الموقف يمينية واضحة لا تختلف كثيرا عن مواقف تيارات عرفت بيمينيتها طوال تاريخها». لكن الحميري نفسه وبعد دقائق من هذا التوصيف والنقد اللاذع يؤكد خشيته من انسحاب قوات الاحتلال، ويوضح: «ان الخراب النهائي سيكون مصير البلاد، إذ ما انسحبت قوات الاحتلال الآن. وستكون عرضة لسيادة اللصوص والمجرمين».
موقف الحميري لا يختلف عنه كثير من مواقف العراقيين الذين يدلون بها فيما بينهم... ويبدو هذا الموقف الذي يحمل في طياته الكثير من التناقض، مرتبطا بحقيقة جوهرية هي أن الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق سبقه عدوان داخلي، فقد شهدت البلاد في حقبة صدام مظالم فاقت الخيال، وطالت كل فئات المجتمع، وأُرغمت البلاد خلالها على خوض حربين حصدت أرواح الآلاف من الأبرياء، وفُرض على إثرهما حصار اقتصادي امتد إلى ثلاثة عشر عاما، وترك آثاره القاتلة على كل شبر في الأرض العراقية، فيما تغلغلت حملات لجان التفتيش الدولية في كل أنحاء البلاد. وتبعا لذلك وجد المجتمع العراقي نفسه فجأة بعد سقوط نظام صدام في مواجهة خيارات صعبة، ففي غياب الرجل الذي كان يتخذ باسمهم كل القرارات التي تخصهم، حتى في أخص خصائصهم، وجد العراقيون أنفسهم بلا سلطة ولا مؤسسات دولة ولا أجهزة أمن وبلدهم تحرقه ألسنة اللهب والاحتلال والخراب، وفي موجة التعبير عن الفرح والسخط للخلاص من الرجل الطاغية الذي ارتكب في حق شعبه ما ارتكب، أطاحوا بصوره وأصنامه التي ظلت لحقبة طويلة تتصدر كل شارع وكل بناية، ودفع المواطنين إلى تكوين جمعيات وهيئات تبحث في مصير أقربائهم الذين غيبوا في عهده، وراح بعضهم يرحب بالأميركي المحتل. ولكن العراقيين الذين يشكون ضيق الحال والدكتاتورية واحتباس النكتة السياسية في حلوقهم، كانوا آمنين في بيوتهم ويخرجون إلى الشوارع يمارسون أعمالهم ولا يضطرون إلى الوقوف لساعات طويلة في وقت ترتفع فيه درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية أملا في الحصول على البنزين... نعم، ربما معظمهم كان يعيش تحت خط فقر متدن إلا أنه كان آمنا على حياته وعائلته مادام كان بعيدا عن السياسة.
أبو آمنة، خريج أكاديمية الفنون الجميلة وفنان السيراميك، يرد على هؤلاء الذين يسمعهم يرددون أن نظام صدام كان أفضل من الوضع الحالي، بالقول: «ماذا تقولون؟.. لو كنتم اكتويتم بنار صدام لما قلتم هذا الكلام». ويردد بعينين تبرقان: «لقد أخذت ابنة عمي من باب الكلية التي كانت طالبة فيها من قبل اجهزة صدام، لأن اباها العالم في العلوم الفيزياوية رفض ان يكون بعثيا، ولم نعرف مصيرها إلا بعد انكشاف المقابر إذ اعدمها نظام صدام. والآن تتكلمون عن محاسن نظامه!!».
وفنان السيراميك هذا تغيرت نبرة حديثه هذه الايام وقد توقف عمله لأن فرن السيراميك يحتاج إلى كهرباء متواصلة لمدة سبع ساعات متواصلة وهذا لم يعد موجودا، وصار يتكلم عن حاجة العراقيين إلى رجل قوي وعنيف كصدام ولكنه عادل. ويقول: «ان الأميركيين لم يفهموا الشعب العراقي، ولا يبدو انهم سيفهمونه. نحن بحاجة إلى رجل قوي وعنيف يستطيع ان يضبط الأمن في البلاد وينهي مافيا الجريمة والاختطاف والسلب. كان الأمن في الشارع العراقي مستتبا ايام صدام والخدمات افضل، نحن بحاجة إلى رجل عادل وقوي لكي يعيد بناء البنية التحتية للخدمات. وبعد ذلك تأتي حاجة العراقي إلى الديمقراطية»
العدد 349 - الأربعاء 20 أغسطس 2003م الموافق 21 جمادى الآخرة 1424هـ