يعاني السودان مشكلة مستعصية أقعدته كثيرا عن ركب التقدم والتطور تكمن في نشوب تمرد في جنوب البلاد على السلطة المركزية في الخرطوم، وذلك منذ العام 1947. وبما أن المفاوضات للوصول إلى سلام عادل وشامل دائما يعتريها الفشل، وآخرها الجارية هذه الأيام في جبل كينيا، فإن حل المشكلة يحتاج إلى قرارات صعبة ومواقف تاريخية حتى لا يضيع جزء من البلاد يعتبر هو الأهم. ويرجح كثيرون أن التسوية الجذرية للمشكلة تكمن في نقل العاصمة الخرطوم إلى الجنوب... وليس هناك غرابة في ذلك، فقد نقلت في العصر الحديث عواصم كثيرة إلى مدن أخرى بل تغيرت اسماء دول إلى اسماء أخرى وخصوصا في افريقيا.
إن نقل العاصمة إلى جنوب السودان (مدينة جوبا مثلا) فيه فوائد جمة تتمثل على الأقل في الآتي:
أولا: نقل مركز وثقل وهيبة الدولة المتمثلة في وزاراتها إلى مسرح عمليات التمرد سيؤثر على أنشطة التمرد نفسها، إذ ستصبح القيادة العامة للجيش السوداني قريبة وبالتالي يسهل التعامل لإخماد الأنشطة المعادية للدولة.
ثانيا: وجود الحكومة الاتحادية في الجنوب سيؤدي طبيعيا إلى تنمية الأقاليم الجنوبية من خلال وجود بنية تحتية جديدة... طرق وجسور ومدارس وجامعات ومستشفيات الخ.
ثالثا: وجود العاصمة في الجنوب يحمي ثروة البلاد المتمثلة في النفط، الذي اكتشف ويصدر معظمه من الولايات الجنوبية، من التخريب والعبث به.
رابعا: نقل العاصمة إلى الجنوب يرسخ الثقة المعدومة الآن بين الشماليين والجنوبيين، إذ يتيقن سكان الجنوب أن الشماليين انتقلوا إلى جزء عزيز من بلادهم مثلماهم الآن يتنقلون إلى مدن الشمال، من أجل ان يعمروه، وانهم أي الشماليين مهتمون بالجنوب مثل اهتمامهم بالشمال والأقاليم الأخرى.
خامسا: وجود الحكومة في الجنوب وانتقال الشماليين جنوبا سيقضي على المشكلات العرقية والقبلية التي هي اساس عدم الثقة بين الجنوب والشمال. إذ من خلال التزاوج والانصهار الاجتماعي عبر السنين ستنتهي التفرقة العنصرية التي ربما يشتمها بعض السكان.
سادسا: نقل العاصمة إلى الجنوب فيه فوائد اقتصادية إذ إن الجنوب غني بالأخشاب الاستوائية التي هي اساس الاثاث، فسيسهل ذلك لكل من يريد ان يكوِّن حياته من الجيل الصاعد عندما يجد في متناول يده المادة الخام الرخيصة التي يصنع منها أثاث منزله والبنيات التحتية الأخرى.
سابعا: نقل العاصمة إلى مدينة جوبا في الجنوب السوداني له فوائد بيئية وصحية، إذ إن من المعلوم أن الزحف والتصحر بدآ منذ سنوات كثيرة في شمال السودان، ويحاول هذا التغير البيئي ابتلاع العاصمة الحالية من خلال العواصف الترابية شبه اليومية ما يكلف كثيرا في أعمال النظافة سواء في المرافق الحكومية أو المنازل ناهيك عن المشكلات الصحية التي يسببها للمدينة المكتظة بالسكان. والعكس صحيح، في جوبا المناخ استوائي ليس هناك جفاف ولا زحف صحراوي ولا ارتفاع في درجات الحرارة ولا صيف طويل إذ إن الجو معتدل وممطر في غالبية شهور السنة.
ثامنا: نقل العاصمة إلى الجنوب سيؤدي بديهيا إلى تنمية المناطق المهمشة الأخرى التي تقع بين الجنوب والشمال وهي الآن موضع شدّ وجذب بين الحكومة والمتمردين مثل منطقة ابيي، جبال النوبة والنيل الأزرق بالاضافة إلى دارفور التي ينشط فيها تمرد آخر الآن. يحدث هذا من خلال الحركة التجارية والاقتصادية بين الميناء الاساسي بورتسودان والعاصمة الجديدة في جوبا.
تاسعا: نقل مركز الحكومة إلى الجنوب وهجرة الشمال المسلم إلى الجنوب ذي الغالبية «الاروحانية» سيؤدي إلى فتوح إسلامية سلمية جديدة في افريقيا ويتوقع ان يدخل سكان الجنوب جماعات وافرادا في الإسلام مع اعترافه بحرية المعتقدات ووجود الكنائس. ويؤدي ذلك أيضا إلى فتوح لغوية تتمثل في اقتحام اللغة العربية مجاهل افريقيا وأدغالها.
عاشرا: وجود الحكومة الاتحادية (المركزية) في الجنوب سيخيف الدول الافريقية المجاورة التي تدعم سرا التمرد الآن مثل يوغندا وكينيا، وذلك من خلال حراسة الحدود والقضاء على أنشطة التمرد الحدودية أولا بأول وليس في ذلك صعوبة بعد أن تنتقل القيادة العامة للجيش السوداني إلى جوبا وتصبح قريبة لردع المتلاعبين بوحدة السودان.
يعتبر جنوب السودان جزءا غاليا من العالم العربي والافريقي، حباه الله بروافد النيل العظيم ويشتمل على ثروة غابية تتمثل في وجود اشجار المانغو النامية طبيعيا إذ لا يملكها أحد، واشجار الاناناس والجوافة وثمار استوائية لا حصر لها، ناهيكم عن وجود النفط الذي بدأ تصديره منذ العام 1999، بالاضافة إلى المشروعات الزراعية المعطلة بواسطة التمرد في منقلا وجونقلي وياي ويامبيو لانتاج القطن والبن والشاي وصناعة الاغذية المعلبة.
ان نقل العاصمة إلى الجنوب لا يعني بالطبع اهمال الخرطوم أو مدن الشمال، فهي ستنشط طبيعيا بما ان الميناء الرئيسي للدولة موجود في الشمال، وبما ان هناك جامعات عريقة ومشروعات عظيمة قائمة في الشمال الآن وبما ان هناك أمنا وأمانا، فلا خوف على الشمال السوداني وأعني باقي الاقاليم في الشرق والغرب أيضا إذ انها تطورت وتقدمت كثيرا من قبل ولا تحتاج إلى ان تتراجع أو تتخلف عن ركب الحضارة.
إن دولة كالسودان لديها مقومات الدولة العظمى بلا تحيز، اذا توقفت الحروب، كيف؟
تمتلك هذه البلاد ثروة نفطية في حقول في الجنوب والشمال معا والدليل تصديره الآن والاكتفاء الذاتي الذي بلغته الدولة أخيرا، بل هناك تهافت من الشركات المتعددة الجنسيات لاستغلال النفط هناك.
تمتلك الدولة نحو 100 مليون رأس من الماشية ناهيك عن بهيمة الانعام الأخرى، ومياه عذبة لا تحتاج إلى معالجة كيماوية.
هي المنتج الأول عالميا للصمغ العربي وهو السلعة الوحيدة التي لم تستطع الشركات الأميركية مقاطعتها على رغم العداء للسودان من الحكومة الأميركية، إذ يدخل الصمغ العربي في صناعات كثيرة، منها الزجاج بجميع أنواعه، الحلويات، الملصقات الخ... فهو البلد الزراعي العربي والافريقي الأول من دون منازع إذا توقفت الحرب وتم استغلال موارده الزراعية استغلالا حسنا ويمتلك السودان موارد بشرية تعتبر من أهم مقومات الحضارة، إذ يبلغ تعداد سكانه الآن 31 مليون نسمة وليس جميعهم أميين كما يعتقد، بل تجد من السودانيين كوادر مؤهلة تأهيلا عاليا من مهندسين وأطباء وحرفيين إلى مخترعين ومنظرين ومفكرين كبار ولكنهم تشردوا عن الوطن بسبب آثار الحرب الاقتصادية. دعونا ندعم فكرة نقل العاصمة إلى جنوب السودان ونجتث الفتنة من جذورها
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 348 - الثلثاء 19 أغسطس 2003م الموافق 20 جمادى الآخرة 1424هـ