انقطاع الكهرباء في الولايات الشرقية الشمالية من اميركا وعودتها من دون تسجيل حوادث أمنية تذكر، يشيران إلى نوع من التطور في علاقة الدولة (الفيدرالية) بالجماعات الاهلية التي يتكون منها المجتمع. والتطور ليس بالضرورة دلالة على نمو وعي بقدر ما هو يؤشر على نمو قوة الدولة ونجاح اجهزتها الامنية في فرض نوع من السيطرة «الكلية» و«الشمولية» على مساحات واسعة من قطاعات المجتمع. والسكون السياسي يؤكد ان الاستقرار ليس بالضرورة سببه الاقتصاد، بل هناك عوامل «أمنية» لعبت على مشاعر الخوف او التخويف من «الارهاب» اسهمت في احداث ما يشبه «توازن الرعب» بين نزوع الدولة نحو الرصد والرقابة على الجماعات الاهلية ومخاوف الادارة من حصول موجة جديدة من الهجمات تذكر بتلك التي وقعت في 11 سبتمبر/ ايلول.
أميركا اذن التي تجتمع فيها كل عناصر القوة من مساحة وكثافة سكانية وموارد اولية وموقع جغرافي وقدرات ثقافية واعلامية وعسكرية تعيش لحظات خوف. الدولة خائفة من «الارهاب» والجماعات الاهلية تخاف من الدولة، والدولة متخوفة من انكشاف علاقتها بمجتمع لا يتمتع بالتجانس الاهلي في هويته.
وفي هذا المعنى، لم تعد اميركا دولة استثنائية فهي تشابهت مع غيرها من الدول في منطق الخوف (المخاوف) في وقت تعتبر الاستثناء الوحيد في العالم الذي تجتمع فيه كل عناصر القوة. إلا ان كل عناصر القوة تصبح لا معنى لها حين تبدأ الدولة تميل إلى اعتماد مبدأ القوة العسكرية (الحروب الدائمة) في علاقاتها الخارجية وتسلك سياسة الرقابة الامنية على جماعاتها الاهلية في صلاتها الداخلية. فالميل الواضح الى تنمية القوة العسكرية وتغذية الاجهزة الامنية على حساب القطاعات الاقتصادية (المنتجة) الاخرى يسهم في احداث خلل في توازن السلطة ويؤدي مع الأيام الى نشوء حال قريبة من «النموذج الاسبارطي» اليوناني الذي امتلك كل عناصر القوة ولم يتغلب على الضعف البنيوي الذي تأسست عليه مدينة اسبارطة. ولذلك نجحت اثينا الديمقراطية في نموذجها السياسي المتعدد والمنفتح والمتسامح في الصمود والاستمرار... وفي النهاية الفوز على النموذج العسكري (الأمني) المنغلق على ذاته و... غيره.
قوة اميركا في انفتاحها وتسامحها وفي نموذجها الذي لا يعرف الانغلاق والتقوقع. فأميركا تاريخيا هي مساحة مفتوحة على الآخر تستقبل كل طامح في العالم يريد تجديد نفسه من دون قيد او شرط. واميركا تقليديا هي مجتمع مفتوح على التنوع والتعدد ولذلك عرفت النجاح والنمو من دون عقبات وعراقيل على رغم كل اخطاء سياساتها الخارجية وتجاوزاتها وسرقاتها لحقوق وممتلكات وثروات الآخرين.
أميركا حافظت على تلك السمات الجوهرية، وهي سر نجاح نموذجها، على رغم ما تعرضت له او أسست له من عداوات ليس بسبب الغيرة والحسد، بل بسبب الطمع الدائم وجنوح دولتها نحو العسكرة واستخدام القوة في جلب الثروة لتأمين الرفاهية لشعبها.
الآن بدأت اميركا تلغي نفسها (نموذجها) وأخذت تتجه وبسرعة نحو المزيد من الانغلاق الخارجي (المخاوف) والسيطرة الداخلية على حراك المجتمع ومراقبته أمنيا، الأمر الذي يزيد من مفاقمة مشكلاتها التقليدية التي تعاني منها دائما وهي محاولة ردم الخلل بين الحاجة الداخلية الدائمة الى الرفاهية (الاستهلاك) وتطوير القوة العسكرية لجلب المال والثروة من الخارج (حراسة الحدود والجباية). ونمو القوة العسكرية في الخارج، وتطوير اجهزة الرقابة الامنية في الداخل على حساب تنمية القطاعات الاقتصادية والمنتجة الاخرى، سيؤديان في النهاية إلى اتساع الهوة بين اميركا والعالم، وبين الدولة والجماعات الاهلية في الولايات المتحدة. واتساع الهوة معناه فقدان التوازن بين القوة والحاجة ونمو خلل بنيوي يكسر ميزان التعادل بين الجوانب المتعددة (عناصر القوة) التي تأسس عليها النموذج الاميركي.
المشكلة في ادارة البيت الابيض الحالية هي في اعتبارها ان القوة تحمي اميركا وان الامن ينقذ الولايات المتحدة من الارهاب... بينما الواقع يشير إلى ان الاقتصار عليهما سيحول اميركا إلى ما يشبه النموذج الاسبارطي (العسكري والمغلق) الذي يمتلك كل عناصر القوة ويعاني من خلل بنيوي يقوم على الخوف والتخويف ورفض الانفتاح والتسامح. وهذا اقصر الطرق الى الانهيار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 348 - الثلثاء 19 أغسطس 2003م الموافق 20 جمادى الآخرة 1424هـ