العدد 347 - الإثنين 18 أغسطس 2003م الموافق 19 جمادى الآخرة 1424هـ

كيلا يختلط الحابل بالنابل في سجن جو

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جيء بشخصٍ مجرم إلى أحد الخلفاء، فأراد أن يقيم عليه الحد فتنازل المدّعي عن حقه لتسقط العقوبة، فأصرّ الحاكم الصالح على تنفيذ العقوبة، وتقدّم ناحيته وعلاه بالدرّة فأوجعه وهو يقول: «خذ... فهذا حق الناس»!

ما علاقة إيطاليا بالبرازيل؟

طوال حلقات المسلسل السوري القديم كان غوّار يطارد حسني البرزان بمؤامراته، فلم يتمكن إطلاقا من إتمام مقاله الصحافي الذي ابتدأه بالعبارة الشهيرة: «إذا أردت أن تعرف ما ذا يجري في إيطاليا فعليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل»! وكنت أتساءل حينذاك: ما الذي يربط البرازيل في اميركا الجنوبية بإيطاليا في جنوب أوروبا؟ بعد ذلك أدركت انها كانت مجرد دعابة أخرى خفيفة ألقاها الكاتب في وجه المشاهدين. أما الآن فأشعر انها دعابة «من النوع الثقيل» تنطبق على بعض الكتاب الذين يحملون فكرة «استالينية» جامدة ويريدون أن يمرّروها بالاستشهاد بما حدث في لندن أو نيويورك أو البرازيل، لتبرير ما قد تتخذه وزارة الداخلية من سياسات عنيفة أو اقتحام «لسجن جو». وينسون أن البحرين ذات نصف المليون ليست بريطانيا ذات الخمسة والخمسين مليونا، وان اقتحام سجن في البرازيل لا يبرر اقتحام سجن في البحرين، وان مقتل 111 سجينا في «سان باولو» لا يبرر قتل اثنين من سجناء البحرين. فدماء الناس ليست بهذا الرخص، وحياة البشر أغلى من الذهب، ومثل هذه الطروحات «التحريضية-التزيينية» كانت تشجّع على اتخاذ قرارات أضرّت بالبلد وناسه في السابق، والكل لا يرغب في العودة إلى المربع الخاطيء. هذه كلمة نقولها إبراء للذمة، وخصوصا ان « سجن جو» ارتبط في ذاكرة الكثير من الأهالي بذكرياتٍ مرّة في أعوام «أمن الدولة»، حين كان السجين يعزل عن زملائه فيموت في زنزانة انفرادية ولا يعرف عنه زملاؤه إلاّ بعد مرور عام ونصف العام. ذاك الزمان ولّى إلى غير رجعة إن شاء الله، وعلى المحرّضين على استخدام العنف كما كان دأبهم في السابق أن يراجعوا أنفسهم مرة أخرى، ليضعوا البحرين ومصلحتها وسمعتها فوق كل اعتبار، فليس من مصلحة البحرين أن تضاف إلى جانب الدول التي تقتحم قواتها السجون وتقتل السجناء، وما أجمل أن يقال ان الحكومة في البحرين تحلّت بأعلى درجات ضبط النفس في تعاملها مع هذا الملف الشائك بدل أن يذكر عدد قتلاها في الإحصائية القادمة التي ستوضع في أرشيف الصحافة العالمية. وفي قضية سجناء جو اليوم هناك جانبان لابد من الوقوف عندهما: القضية الأولى هي الجانب الإنساني البحت، ونعني به الحقوق الانسانية للسجين بوصفه بشرا، له حقوق وكرامة يحفظها له الشرع والدين والقانون. ولا يمكن إلغاؤها أو سحقها أو القفز عليها تحت أي ظرفٍ أو مبررٍ كان. وأهم ما أبرزه الحدث الأخير المؤسف في «جو» ان هناك انتهاكات مازالت تمارس بعد ربع قرن من افتتاحه نهاية السبعينات، وعلى من يهمه الأمر أن يستمع لها ويصحّح الأوضاع الخاطئة التي ما عاد ينبغي أن تستمر إلى غدٍ أو بعد غد.

الجانب الآخر هو أن هؤلاء السجناء أخطأوا في حق أنفسهم وعوائلهم ومجتمعهم، وهم يقضون فترة الجزاء والعقاب، ولا يمكن قبول خلط الأوراق أو اللعب بالعواطف، فينبري البعض للدفاع عنهم على أساس انهم «مظلومون» أو «مضطهدون»، أو ان القانون جائر. ومهما قيل عن أسباب دخولهم السجن من انحراف أو تفكّك أسري أو بطالة أو أصدقاء السوء، فالمجتمع نفسه غير مسئول عن كل من يدخل السجن على إثر جريمة يقترفها أو جناية يرتكبها فرد من أفراده، وليس على المجتمع أن يدفع من أمنه ثمن أخطاء بعض الجانحين أو الخاطئين أو المجرمين، فالمطلب بإعادة النظر في الأحكام مرفوض جملة وتفصيلا. بل ان هناك دعواتٍ ما فتىء الناس يطالبون بتكرارها ، وهي تشديد العقوبات على من يتجاوز القانون ويعتدي على حقوق غيره، وخصوصا أننا نشهد تراجعا في مجال حفظ الأمن الاجتماعي، يتمثل بوضوح فيما نقرأه من تزايد الجرائم، والتفنن في السرقات وتزايد حوادث القتل لأسباب تافهة. في السابق كانت هذه الحوادث تقع كل عدة سنوات، بسبب الاعتداء على عرضٍ مثلا فتبقى البحرين كلها مشغولة بالحديث عنها عدة أشهر، أما اليوم فأصبحت الأعراض من الأمور المسترخَصَة لتبرز إلى السطح أسباب تافهة مثل عدم السماح بمرور السيارة أمامك أو لرفع صوت المذياع! تزايد أنواع الجنح والاعتداءات والسطو والاستهانة بحرمات البيوت وأهلها، دفع إلى رفع الأصوات المطالبة بتشديد العقوبات من أجل الردع، بينما حركة سجناء جو وضعت على رأس أولوياتها المطالبة بتخفيض العقوبات التي هي مخفّضة أصلا. وهو أمر نرجو ألا تتورط في دعمه أي مؤسسة حقوقية أو إنسانية أو سياسية، أو أفراد كالنواب أو المحامين أو حتى الزملاء الصحافيين، كما نتمنى ألا تلقي الحكومة بأي أذنٍ صاغيةٍ لهذا المطلب الباطل.

علينا ألا نقبل بخلط الأوراق إطلاقا، من أجل سلامة وأمن المواطن الذي ما عاد يأمن على سيارته من السرقة، أو على طفله من الاعتداء، أو على بيته من السطو، وكفانا لعبا بالمشاعر، فالحال ما عاد يحتمل المزايدة. وإذا كانت امرأةٌ ما تطالب بتدخل أعلى السلطات السياسية في البلاد لإطلاق سراح ابنها ووحيدها المحكوم عليه في قضية تهريب وتعاطي مخدرات، فذلك شأنها ولا أحد يقف في وجه عواطفها. وإذا ألحّت أخرى بإطلاق سراح ابنها «النزيه» لأنه أخطأ وسرق مرة واحدة، فعلى من يسمع دعواها تحرّي الحقيقة قبل تبنّي الدفاع عنه أو إبرازه بطلا في الساحة، لئلا يكتشف انه من اصحاب السوابق وعليه عدة قضايا تنظرها المحاكم منذ سنوات. فأمام هذه الموجة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتتعالي الأصوات وتنطلق الدعوات للإقتداء مرة بشرطة نيويورك ومرة أخرى بشرطة البرازيل، تجد نفسك أمام اندفاعة لا يمكن تبريرها من المطالبة غير الحقة، فبهذه الطريقة تضيع حقوق المجتمع ويتخلخل أمنه واستقراره، وننسى أن للمجتمع حياة وحقوقا لا يمكن الحفاظ عليها إلا بتطبيق القانون... ألم يقل ذلك الحاكم الرشيد: «خذها... فهذا حق الناس»؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 347 - الإثنين 18 أغسطس 2003م الموافق 19 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً