العدد 347 - الإثنين 18 أغسطس 2003م الموافق 19 جمادى الآخرة 1424هـ

أميركا: توازن القوة والحاجة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انقطاع الكهرباء الأسبوع الماضي عن ولايات أميركا الشرقية الشمالية شكل مناسبة لاختبار إدارة واشنطن مدى نجاح تدابيرها الأمنية التي اتخذتها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. فالهدوء النسبي الذي شهدته الولايات بعد انقطاع الكهرباء يشير الى نمو قوة الدولة داخليا ونجاحها الى حد كبير في السيطرة على جماعاتها الأهلية من طريق الرصد والمراقبة والتخويف من أخطار خارجية. فأميركا هي الدولة الوحيدة في العالم، ومنذ الاكتشافات الجغرافية قبل أكثر من 500 سنة، اجتمعت فيها كل مقومات القوة التي قلما توافرت كل عناصرها وتوحدت في دولة واحدة كما هو حاصل الآن في الولايات المتحدة.

وبسبب طبيعة أميركا وظروف اكتشافها وتكوينها السكاني (مهاجرون) لعبت الدولة في الولايات المتحدة الدور الرئيسي في قيادة المجتمع الأمر الذي كان له أثره البالغ في توتر منظومة العلاقات الداخلية بين الدولة والمجتمع. فالمجتمع في أميركا يتبع الدولة وليس العكس. والسبب ان الدولة في أميركا تأسست قبل المجتمع في مستوطنات المهاجرين ونهضت لتتحمل مسئولياتها قبل نهوض المجتمع الذي نعرفه الآن في صيغته الحالية... وهي صيغة ليست نهائية.

وبسبب طبيعة تأسيس الولايات الأميركية كانت الدولة هي التي ترسم شخصية المجتمع وثقافته وليس العكس. فظهر المجتمع وكأنه نتاج الدولة وليست الدولة نتاجا له. لذلك شكل الانتماء للدولة حجر زاوية لاثبات هوية الفرد (والجماعات الأهلية) بغض النظر عن لونه وجنسه وأحيانا دينه.

وبعيدا عن الدستور وما هو مطبق منه على أرض الواقع يعتبر التمييز (العنصري) في أميركا مخالفا للدستور على رغم أن الدولة لا تستطيع منعه في الواقع.

وبسبب ذلك التفاوت بين الواقع والدستور بحث المواطن دائما عن هويته في الدولة. فالهوية في أميركا هي الدولة والمواطن يستمد جنسيته من الدولة وليس من جماعته. فالجماعات الأهلية تعطي هويات مختلفة ومتناقضة بينما الدولة تقدم هوية واحدة ومشتركة لكل الجماعات الأهلية.

ولأن الدولة، وليس المجتمع، تعطي المواطن الفرد هويته كان تاريخ الولايات المتحدة تاريخ جماعات وليس جماعة واحدة. والدولة في هذا المعنى لعبت تقليديا دور الضابط بين حاجات المجتمع وتوازنه الداخلي وبين عناصر القوة.

وبسبب نمط الحياة الاستهلاكي الذي أسست الدولة المجتمع عليه كانت الولايات المتحدة تعاني دائما من مشكلة الحاجة (حاجة المجتمع الى مزيد من الرفاهية). والرفاهية لا تحصل إلا من خلال قوة الدولة.

كان لا بد اذن أن تنهض الدولة على أساس «نظرية القوة» لتلبية الضغوط المتواصلة والمتنامية للمجتمع. وهذا لا يصح ويكتمل إلا بتطوير الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية. ولذلك توزعت القوة الأميركية على مستويين: الداخل (الأمن) وهو استمرار نجاح الدولة في ضبط توازن الجماعات الأهلية وهذا يرتبط بمدى نجاحها في تأمين متطلبات الرفاهية (الاستهلاك). والخارج (الصناعة العسكرية) وهو استمرار تفوق الدولة على دول العالم وهذا يرتبط بمدى استعداد الدولة في تغذية قوتها العسكرية. فالدولة الأميركية تلعب دائما دور الحارس للحدود والجابي الذي يجلب الثروة من الخارج (العالم) لتغذية حاجات المجتمع ومتطلباته الاستهلاكية الدائمة.

الدولة الأميركية في هذا السياق التكويني لتاريخها فريدة من نوعها. ونموذجها السياسي يقوم على ضبط التوازن بين طموح القوة وضغوط الحاجة. لذلك كانت هي اللاعب الرئيسي الذي يقود المجتمع ويوحده ويضبط اختلاف تجانس هوياته في ايقاع تاريخي متحول تتغير فيه أحيانا ألوان المجتمع بسبب الحراك الاجتماعي المستمر الناتج عن النزوح الدائم للمهاجرين أو الوافدين الى (الحلم) من القارات الخمس. وبسبب طبيعة الدولة تركزت مهماتها على الدفاع عن المصالح الأميركية من طريق القوة العسكرية في الخارج . ونجاحها في الخارج يعني داخليا الدفاع عن توازن المجموعات الأهلية وحماية الهوية المشتركة من الانهيار بسبب التبدلات الجارية على المستوى السكاني.

إلا أن توازن القوة (العسكرية) مع الحاجة (الرفاهية) جعل من الدولة الأميركية تبحث دائما عن مصادر الطاقة والثروة لتلبية رغبات المجتمع المتنامية نحو المزيد من الاستهلاك الذي اذا استمر في افراطه سينعكس سلبا على موقع الولايات المتحدة الدولي بسبب اضطرارها الى الافراط في استخدام القوة العسكرية في الخارج. وهذه بالضبط هي نقطة ضعف أميركا: ضبط التوازن بين القوة والحاجة.

وما حصل خلال فترة انقطاع الكهرباء في الولايات الشرقية الجنوبية يؤكد مجددا على أن الافراط في استخدام القوة في الخارج لا يلغي الحاجة الى استخدامها في الداخل لضبط الجماعات الأهلية... وهذا ما نجحت به الأجهزة الأمنية حين استخدمت فزاعة «الارهاب» لتخويف الناس من انهيار الأمن الوطني. وهذه نقطة تشير الى نمو قوة الدولة داخليا وتوصل الأجهزة الى نوع من السيطرة «الكلية» و«الشمولية» على الجماعات الأهلية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 347 - الإثنين 18 أغسطس 2003م الموافق 19 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً