في السبعينات من القرن الماضي انقطعت الكهرباء في نيويورك. وخلال مدة تسع ساعات انهارت المدينة فدبت فيها الفوضى واندلعت النيران ونهبت المتاجر وعمت السرقات وحوادث القتل والاغتصاب وتجمدت حركة السير وفقدت الدولة (والبلدية) سيطرتها على كل مرافق نيويورك ومصارفها وبورصتها وغيرها من شرايين الحياة.
وبعد عودة التيار الكهربائي احتاجت البلدية (مدعومة من الدولة الفيدرالية) إلى أسابيع لإعادة الحياة الطبيعية إلى المدينة... وحتى الآن لم تعرف الأسباب التي دفعت بأهالي نيويورك إلى استغلال انقطاع الكهرباء والعبث بالمدينة ونهبها. وهناك تفسيرات «مؤامراتية» عن الموضوع تقول إن الانقطاع كان مدبرا وان السرقات ونهب المتاجر (وخصوصا المجوهرات والذهب) وحرقها كانت منظمة من جهات وهيئات (مافيات) استولت على ثروات وموجودات لا تقدر بثمن واخرجتها بسرعة من المدينة وتحت جنح الظلام.
كان هذا قبل 30 عاما. ولم ينقطع التيار الكهربائي في المدينة منذ ذاك التاريخ إلا أحيانا وفي أحياء معينة ولفترات قصيرة جدا. فالبلدية تعلمت الدرس واتخذت احتياطات لازمة تمنع تكرار الانقطاع، وفي حال حصوله اتخذت تدابير مضادة لمنع تكرار حوادث السرقة والحرق والنهب. فالإجراءات تناولت مختلف القطاعات من تأمين وحماية وحراسة ومراقبة وغيرها من تدابير تمنع انهيار المدينة في لحظات.
بعد ثلاثة عقود من ذلك الحادث تكرر أمر الانقطاع وشمل هذه المرة سلسلة مدن ومناطق تقع في الولايات الشرقية الشمالية الأميركية والولايات الشرقية الجنوبية الكندية. وحصل الانقطاع في فترة بعد الظهر وقبل غروب الشمس... الأمر الذي يفسر سبب عدم الانهيار العام وحصول حوادث قتل وسرقة ونهب متاجر. الانهيار اقتصر هذه المرة على شئون الحياة العامة من نقل ومواصلات وغيرها من تفصيلات وجزئيات لها صلة بالمطارات والمصارف والمحلات العامة، الأمر الذي أدى إلى خسائر بعشرات الملايين من الدولارات بسبب توقف المدينة عن العمل. إلا أن الملاحظ هو أن الانقطاع كانت فترته أطول وشمل الكثير من المدن والمناطق، وعلى رغم ذلك لم تحصل تلك الحوادث من شغب وحرق وسرقة ونهب وانفلات الفوضى الأمنية وخروج الأحياء الفقيرة على مناطق الأغنياء والتعرض للمارة في الشوارع والطرقات.
والسؤال: ما الذي حصل في الولايات المتحدة وما التطور الذي أحدثته الدولة خلال العقود الثلاثة الأخيرة حتى لا تتكرر الحوادث التي وقعت في «السبعينات»؟
هناك أكثر من احتمال (فرضية) يفسر الهدوء النسبي الذي شهدته المدن في الولايات الشرقية الشمالية بعد انقطاع الكهرباء. فهناك مثلا التدابير الأمنية التي اتخذتها البلدية (والدولة) في مختلف المناطق لمواجهة ما تسميه «الارهاب». وهناك أيضا مخاوف الناس من أن تكون عملية قطع الكهرباء مدبرة وبالتالي فإن الخروج في الليل يعني التعرض لمخاطر أمنية قد يشنها «إرهابيون». وهناك أيضا حصول الانقطاع قبل هبوط الليل، الأمر الذي أعطى فرصة للبلدية والدولة، لاتخاذ إجراءات أمنية منعت تحول الارباك إلى فوضى عامة يستغلها الفقراء. فكل هذه المخاوف أرعبت سكان نيويورك والمدن المجاورة فمال الناس إلى الانتظار وعدم التحرك حتى تعرف الجهة أو الأسباب التي أدت إلى انقطاع الكهرباء.
ربما تكون المخاوف المتبادلة (توازن الرعب) أسهمت في منع انفلات الوضع الأمني وانهيار نيويورك والمدن المجاورة، وربما أيضا - وهذا هو المرجح - أن تكون البنية الديموغرافية (السكانية) لسكان مدن ولايات أميركا الشرقية الشمالية قد تغيرت خلال هذه العقود الثلاثة فنزحت جماعات أهلية إلى الولايات الغربية والجنوبية وحلت مكانها مجموعات أهلية تختلف في سلوكياتها وعلاقاتها مع الدولة. وهذا يعني أنه حصلت فعلا تغيرات ملموسة في صلة الدولة بالجماعات الأهلية الأميركية ونجاح الدولة في تعزيز نفوذها وسيطرتها على مختلف القطاعات السكانية. فعدم تحرك الجماعات الأهلية وخضوعها لتوجيهات الدولة وارشاداتها والتزامها بالنظام وعدم استغلال انقطاع الكهرباء لزرع الفوضى... كلها إشارات تدل على تحول كبير حصل في الولايات المتحدة، في نظام العلاقات بين الدولة والمجتمع. فالدولة أصبحت أقوى والمجتمع مال إلى مزيد من الخضوع والتهميش. فالناس تخاف من الدولة على قدر مخاوف الدولة من «الارهاب».
وهذه مفارقة تحتاج إلى مزيد من القراءة والدرس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 346 - الأحد 17 أغسطس 2003م الموافق 18 جمادى الآخرة 1424هـ