لم يأتِ اختياري لهذا الفيلم مصادفة، بل إنني كنت انتظر وصوله بفارغ الصبر وذلك منذ اللحظة التي تم عرضه فيها في أوروبا أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي. ويعود سبب لهفتي إلى مشاهدته، إلى الجدل الذي أثاره هذا الفيلم بداية عرضه في أوروبا، ولم يكن الجدل فنيّا بل كانت له أسباب سياسية أو قد يصنفها البعض على أنها تاريخية عرقية أو ربما دينية. ودار الجدل حول موضوع الفيلم الذي رأى فيه الكثيرون من الأوربيين، على اختلاف توجهاتهم ودياناتهم، تمجيدا لهتلر الذي يعتبر أحد مصادر شقاء البشرية، ولذلك تعرض مخرج الفيلم للكثير من الهجوم والانتقادات وظهرت الكثير من الأصوات التي دعت إلى إيقاف عرض فيلمه.
أما الآن، وبعد أن شاهدت الفيلم أخيرا، فأستطيع أن أشارك في هذا الجدل وأن ابدي رأيي سواء أكان مسموعا أم لا، لكن قبل ذلك يجب عليّ أن أسرد قصة الفيلم باختصار لأترك لكم المجال لأن تضموا أصواتكم أنتم أيضا وتتخذوا موقفا من هذا الجدل، حتى وإن لم نتمكن، أنا وأنتم، من إعلان موقفنا.
تدور قصة الفيلم في مدينة ميونيخ في العام 1918 وتتناول التغييرات التي طرأت على ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الكبرى، وهي التغييرات التي تمس حياة الناس في جميع المجالات وليس فقط في المجال السياسي. كما يقدم الفيلم تصويرا ووصفا للحال النفسية التي كانت سائدة في هذه الفترة والتي أدت إلى خلق جو سياسي مشحون وصل بالعالم إلى كارثة الحرب العالمية الثانية. بالإضافة إلى ذلك، يوغل بنا المخرج في تفصيلات أخرى، فنرى الألمان الذين لايزال يعتريهم الذهول والألم جراء ما حل بأبنائهم أولا، ثم ما حل ببلادهم وكيف عادت عليها الحرب بالخزي والعار، فهي لم تهزم فقط، بل اقتطعت أجزاء من أراضيها لتكون تحت سيطرة دول أخرى، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وجب عليها أن تقدم اعتذارا رسميّا عن الحرب. خزي وعار سياسيان لم تمر ألمانيا بمثلهما مسبقا أديا إلى ظهور نزعات عرقية خطرة أوصلت العالم إلى طريق مسدود حين سببت كارثة الحرب العالمية الثانية. وفي وسط آلام الألمان كانت هناك مشاعر أخرى تستحوذ على قلوبهم الألمان ركيزتها الانبهار بكل ما هو جديد، وبكل ما يمكن أن يفتح الطريق أمام المستقبل، فقد كانوا جميعا يركزون أنظارهم على هذا المستقبل الذي يبدو مجهولا لهم، وفي الوقت ذاته يحلمون ويخططون لتنفيذ أحلامهم التي ستغير العالم بأكمله.
جميع الألمان كانوا يحلمون، كل بطريقته وفي مجاله، أما ماكس روثمان (جون كوساك)، الذي يرسم لنا المخرج مينو ماييس صورة ألمانيا في هذه الفترة من خلال قصته، فلم يكن يحمل الكثير من هذه الأحلام، إذ عاد هذا الرسام من الحرب الكبرى حزينا بائسا، فهو أولا يحمل المشاعر الوطنية التي كان يحملها أبناء بلده، وهو بالإضافة إلى ذلك يحمل همّا أكبر إذ إنه فقد أهم ما يملكه الفنان: يده. وهكذا بدت الحياة أمامه بلا مستقبل، لكنه مع ذلك لملم جروحه وعاد ليفتح معرضا للوحاته، وتمكن من أن يجعل من هذا المعرض صرحا مهمّا وشهيرا يتوافد عليه الأثرياء والمهتمون بالفنون الجميلة لشراء لوحاته التي كانت تباع على رغم غلاء أسعارها. وتطول أحزان ماكس عائلته، التي تتكون من زوجته الجميلة (مولي باركر) وابنه وابنته، إذ تبدو العائلة على وشك الانهيار بسبب ما يعانيه ربها، وبسبب افتتانه بإحدى الفنانات العاملات معه (ليلي سوبيسكي)، وعلى رغم كل ذلك لاتزال فكرة المستقبل تسيطر على ماكس، كغيره من الألمان، لكنه لا يستطيع تحقيقها وقد فقد يده اليمنى وقدرته على الرسم، بل يجدها في يوم افتتاح معرض لوحاته، في فنان غير معروف هو أدولف هتلر (نوح تايلر).
هنا تتضح الأمور وتتجلى نقطة الخلاف والجدل، فالجميع يرفض أن تقدم صورة تحمل أي نوع من التشريف لشخصية هتلر أو تضفي عليه بعضا من ملامح الإنسانية، فلا أحد يريد أن ينظر إلى هتلر على انه كان يملك إحساسا معينا ببعض الأمور يدفعه إلى رسم مادة أو أخرى، لكن الفيلم يقدم إجابة أراها شافية، فالفنان هتلر الذي فقد كل شيء بعد الحرب صاغته الظروف التي صاغت كل الألمان، وتملكته النزعات التي تملكت غيره، لكنه بدا أكثر تطرفا من الآخرين بسبب اجتماع كل ذلك على شخص واحد. فماكس، مثلا، الذي فقد قدرته على الرسم، لم يفقد عائلته وحب زوجته على رغم علمها بخيانته، ولم يفقد منزله الكبير وثراءه، وهكذا يبدو أن الفيلم يقدم عذرا، إلى حد ما، لنازية هتلر ولاإنسانيته، فمعاناته لا تحتمل.
لكن الفيلم يتواصل لنرى التشويش والخلط الذي أصاب هتلر كما أصاب غيره من الألمان وجعله يخلط بين الفن والسياسة والمشاعر الشخصية. فهتلر الرسام لم يستطع أن يعبر عن مشاعره في لوحاته، ولم يستطع إخراج ما يعتلج في أعماقه إلا حين لجأ إلى السياسة والأوضاع السياسية في بلاده، وحين نفّس عن مشاعره التعصبية لبني جنسه، وعن نزعاته العرقية وعدائه للعرق اليهودي، فجاءت لوحاته معبرة ومصورة للمستقبل أحسن تصوير. لكن مواهب هتلر لم تتوقف عند حد الرسم، بل انه برع في الخطابة التي كانت فنا جديدا يتساوى مع فن الحداثة الذي اصطبغت به كل لوحات ماكس. وعمل هذا الفن الجديد، المتمثل في الخطابة الدعائية، على أن ينقل إلى الألمان ما لم تستطع لوحاته إيصاله، كما انه أظهر النزعات العرقية لدى الكثيرين منهم، وهذا الفن أيضا هو الذي أنهى حياة ماكس في الليلة التي كان من المفترض أن يلتقي فيها هتلر ليدخله إلى عالم الفن والفنانين.
وهكذا فمهما كان العذر الذي يعطيه الفيلم لهتلر فإنه لا يطلب منا التعاطف بأي شكل معه، لكن أصحاب هذا الجدل غفلوا أو تغافلوا عن نقطة أخرى في الفيلم تتعلق باليهود ومحاولة تقديمهم بالصورة المثلى، إذ يتضح لنا لاحقا، من خلال بعض مشاهد الفيلم الأخيرة، أن ماكس روثمان، الذي يظهر في صورة الإنسان، الفنان، والمساهم في اقتصاد البلاد، والذي يحمل روحا حساسة، والمحب للحياة على رغم كل شيء، وما إلى ذلك، ما هو إلا يهودي، وكأن لسان حال الفيلم يضيف إلى ذلك عبارة «وإلا لما كان إنسانا بمعنى الكلمة». وهكذا نجد موضوع تبجيل اليهود وتعظيم بطولاتهم يسيطر على الفيلم، وهو في رأيي من الموضوعات التي تصيب المشاهد بالغثيان على المدى الطويل، ولا أعرف متى سيتوقف مخرجو هوليوود عن التفجع لما حدث ولما طال اليهود.
لا أعتقد أن الفيلم مبني على قصة حقيقية، لكنها على أية حال قصة ذكية كتبها وأخرجها مينو ماييس، هدفها الأول والأخير الحصول على مزيد من التعاطف مع اليهود، لكن هل يعتبر المخرج ما يفعله اليهود الصهاينة اليوم رد فعل طبيعيّا لما لحق بهم؟ وهل يبرر أعمالهم بظلم هتلر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلما يدفع آخرون ثمن زلات هتلر وأبناء جنسه؟
لا أستطيع القول إن الفيلم غير جدير بالمشاهدة فهو يقدم كمّا هائلا من المعلومات على أية حال، لكني أتساءل إن كان هناك مخرج هوليوودي ظهر أو لم يظهر، يفكر في إنتاج فيلم عن تألق صدام في أي مجال، وعن الكيفية التي صنعته بها الظروف؟
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 345 - السبت 16 أغسطس 2003م الموافق 17 جمادى الآخرة 1424هـ