العدد 344 - الجمعة 15 أغسطس 2003م الموافق 16 جمادى الآخرة 1424هـ

البشير بين حصاني «هرقل» و11 عملا

عن الحوار الوطني السوداني

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

هرقل أو «هيراكليس» من أشهر الأبطال ذوي العضلات الفولاذية في أساطير اليونان، غير أن الآلهة «هيرا» كانت تكرهه وتكيد له. وقد قام باثني عشر عملا خارقا حتى تحقق له التحرر من مكائد «هيرا». من بينها أن شد إليه حصانين متعاكسي الاتجاه والدفع.

المطلوب من الرئيس السوداني عمر البشير الآن هو أن يؤدي الأعمال الاثني عشر، فيشد إليه جون قرنق وكذلك «متنفذي» حزبه الحاكم، ثم ينتظره بعد ذلك أحد عشر عملا لإعادة بناء وتأسيس السودان، فيما يقابل عدد «إخوة يوسف» (ع) الذين رموه في «الجبّ» ثم مكنه الله منهم، فهناك بعد قرنق ومتنفذي الحزب أحد عشر آخرين في الخرطوم والغرب والشرق ولكل منهم برامجه، بما في ذلك من يريد فصل الشمال كحل لمشكلة الجنوب، وعله سيطالب بعد قليل بفصل الغرب ثم الشرق، فمن دون ذلك لا يتم التحرر من «هيرا».

لا ذرة شك ولا أدنى من ذلك عندي نهائيا في أن الرئيس البشير حريص على «وحدة السودان الجغرافية السياسية»، وقابل لما دون ذلك من صيغ دستورية، فيدرالية أو ولائية أو «كونفيدرالية معدّلة» في إطار السودان «الواحد». وكذلك قابل «للحوار الوطني» الذي يفضي الى توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار.

وقد خبرت الأمرين عن قرب، منذ عودتي الى الخرطوم في الأول من مارس/ آذار 1997 بعد ثماني سنوات من انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو/ حزيران 1989 ومن ثم توقيعي مع الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي الشريف زين العابدين الهندي «إعلان دمشق» للمصالحة الوطنية بتاريخ 17 مايو/ أيار 1997.

مناهضو خط الرئيس

الذين يناهضون خط الرئيس هم «المتنفذون» في الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وقد كتبت عن ذلك «الحياة» (13 مارس 2001 العدد 13876 بعنوان: «النائب الأول يقف أمام الرئيس بعد عزل الترابي واعتقاله»). وبسبب هؤلاء ومواقفهم أعلنت عن حل «حركة حسم» بتاريخ 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 بعد تأسيسها في 23 فبراير/ شباط 1999 م. ولمّا ينقضي عليها عام وثمانية أشهر.

متنفذو المؤتمر الوطني هؤلاء سبق لهم أن «ركبوا» دعوة الرئيس لأول حوار وطني بتاريخ 23 يوليو/ تموز 2000 ثم «أجهضوها» في 20 أكتوبر من العام نفسه وبعد ثلاثة أشهر من الجلسات «العقيمة» ثم كرة أخرى مطلع شهر أغسطس/ آب من العام الجاري 2003 وكذلك تم الإجهاض، ما دفع بالرئيس البشير ليعلن تحمّل «المسئولية المباشرة» عن الحوار الوطني والالتقاء بممثلي «المعارضة من الداخل» للمرة الأولى بعد 14 عاما من الانقلاب في منزله بتاريخ 11 أغسطس الجاري، والتأكيد لهم «نيته» إلغاء قوائم حظر السفر ورفع الرقابة عن الصحف ودراسة إلغاء حالة الطوارئ وتوفير الحريات. وليست هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها الرئيس على تبني الحوار الوطني ثم يجهض المتنفذون في الحزب الحاكم «دوره الرئاسي»، فقد سبق أن أعلن ذلك بتاريخ 12 فبراير 2001 إثر ولايته الرئاسية الثانية لمدة خمس سنوات وأمام تجمع لقادة دول الساحل والصحراء في الخرطوم إذ ركز على «الوفاق الوطني» و«الانفتاح الإقليمي والدولي» و«التعايش مع العولمة»، غير أن المتنفذين في الحزب الحاكم سبقوا البشير وطوقوه بموقفين:

الأول: وهو إجهاض الحوار الوطني بعد تشكيل اللجنة التحضيرية (31 يوليو -20 أكتوبر 2000) كما أوضحنا.

والثاني: إصدارهم إثر مؤتمر الحزب الحاكم (27 - 30 سبتمبر/أيلول 2000) قرارا يكرس «أحادية الحزب» بوصفه «كيانا سياسيا جامعا» وشموليته، وأن أية «مشاركة» تخضع «لتدرج» سياسي ودستوري «موجب» تقديره لديهم هم بالذات.

هكذا حوصر البشير على مستوى الحوار والوفاق الوطني منذ عامين ونصف العام.

وناهضوه في التسوية مع قرنق

فإثر دورته الرئاسية الثانية وإعلانه ضرورات الوفاق والانفتاح الإقليمي والدولي تحرك الرئيس الأميركي جورج بوش فورا وأعلن تعيين جون دان فورث بتاريخ 6 سبتمبر من العام ذاته. وبعد «سبعة أشهر» فقط من إعلان البشير الرئاسي ليصبح ممثلا رئاسيا مهمته تسوية أوضاع الحرب بين الشمال والجنوب وفق منظور سابق وضعه مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن في فبراير من العام نفسه يقضي بقيام نظامين في دولة «واحدة موحّدة». وهذا ما سبق لي أن دعوت اليه بتاريخ 26 مايو 1999، على صفحات «الحياة» العدد 13277.

وفي إطار انفتاحية البشير تلك تم توقيع اتفاق «جبال النوبة» في سويسرا بإشراف أميركي بين الإنقاذ وحركة قرنق بتاريخ 19 يناير/ كانون الثاني 2002. ولم يكن انقضى على تعيين جون دان فورث أكثر من 4 أشهر فقط، ولم يكن قد انقضى على وصوله الى للسودان أكثر من شهرين فقط، إذ وصل فورث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 والسبب في التأخير هو تفجيرات 11 سبتمبر أي بعد خمسة أيام من تعيينه، ولكنه لم يتأخر كثيرا وأنجز في أقل من شهرين مهمته تجاه «جبال النوبة» واتجه الى تسوية أوضاع الجنوب بداية من عقد أولى اجتماعات كينيا (مشاكوس) في الفترة ما بين 18 يونيو وإلى 20 يوليو 2002 إذ «أجبرت» أميركا المتفاوضين على توقيع الاتفاق بينهما بتاريخ 22 يوليو بعد إعلانهما فشل المفاوضات قبل يومين. وكان البشير نفسه من وراء الأمر للفريق السوداني بتوقيع الاتفاق. ولم يكتفِ البشير بمتابعة المفاوضات من «على بعد» فهو خبير «بالعصي» التي يضعها متنفذو الحزب الحاكم في عجلات التسوية، فسارع الى لقاء «قرنق» باستضافة الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني في العاصمة «كمبالا» بتاريخ أغسطس 2002. ثم أعلن على الملأ بتاريخ 27 أغسطس 2002 في مدينة «شندي» عاصمة عشائر «الجعليين» التي ينتمي إليها أن الأميركيين لم يعودوا «طغاة»، و«أن تفاهم مشاكوس أفضل من دستور الإنقاذ لعام 1998»، وهو الدستور الذي كان قد وضعه الشيخ حسن الترابي. كما صرح لإحدى الصحف بتاريخ 26 أغسطس 2002 أنه بالإمكان «التوصل الى السلام بحلول شهر سبتمبر».

الذين يعرفون البشير عن قرب، يجمعون على أن الرجل «مخلص في كلماته» و«طيب السريرة»، وهناك من يعلم علم اليقين - سمعا واستماعا - أن تلك كانت «تعليمات الرئيس» الى وفده العائد من بعد توقيع مذكرة التفاهم، وقد خرجت أميركا من قائمة «الطغاة» تمهيدا لأن يخرج السودان من قائمة «الإرهاب»، بل وأصبح تفاهم مشاكوس مقدمة دستور سوداني «جديد» يقنن «التنوع» و«التعدد» الديني والعرقي دستوريا، ويحدد علاقة الدين بالدولة، ويأتي على «قسمة السلطة والثروة». فالبشير قد مضى إلى أبعد من «تفاهم مشاكوس» ليصبح «دستور مشاكوس». حتى انه أغلق الطريق بشكل غير مباشر على الذين أثاروا العلاقة بالمبادرة المصرية الليبية فقال: «أنا أقول ان القلق المصري قلق مشروع، ولكن ما يقلقنا نحن هو القلق المصري على الإرادة السودانية «(حديثه الى مكرم محمد أحمد 21 أغسطس 2002)، وكان قد أكد من قبل «إن حلايب سودانية ولا نستأذن أحدا في اتفاق يخص بلادنا» (حديثه الى صحيفة «الوطن» القطرية 16 أغسطس 2002).

الحصار المزدوج للبشير (قرنق)

ثم إثر سقوط توريت في الأول من سبتمبر 2002 شعر الرئيس أنه حيث يهيئ للسلام وبكل قوة الاندفاع لديه وقال ما قال وصرح ما صرح، الأمر الذي «يستوجب سلوكا مماثلا» من طرف حركة قرنق ولو لم يكن هناك اتفاق لوقف إطلاق النار أو هدنة، وبالذات بعد لقائه في «كمبالا» عاصمة يوغندة العقيد جون قرنق بعد مشاكوس.

شعر الرئيس أن «نوايا» قرنق تتجه الى غير نواياه، وقد كرس لـ «وحدويته» في تصريحاته بعد لقاء كمبالا. إذ كان المطلوب من قرنق أن يتخذ من المواقف ما يساند به مواقف الرئيس البشير، وأقل ذلك عدم القيام بأية عمليات عسكرية «لتحسين مواقعه» على الأرض.

فالذين راهنوا على تفاهم مشاكوس راهنوا في الحقيقة على مواقف الرئيس البشير «وصدق نواياه»، والتي أثبتها بتلك التصريحات، والذين راهنوا - في المقابل - على «إجهاض» مشاكوس يعلمون أن مراهناتهم يائسة إلاّ إذا «تغير» موقف الرئيس، وهذا ما حققه لهم قرنق.

فقرنق لا يكف عن «المناورات» بعد أن اتخذ من مشكلة الجنوب «أداة» للوثوب إلى شمال السودان «كله» بزعم تحقيق «برنامج السودان الجديد الموحّد»، وهو برنامج يستند إلى شعارات «حديثة» كحقوق المواطنية الكفيئة والمتكافئة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه يستند في قاعدته الاجتماعية على أكثر القوى تخلفا في السودان من قاعدة قرنق «القبلية» في الجنوب وإلى الثنائية الطائفية «الأنصار والختمية» في الشمال، وبتحالفات «أثنية» ذات طابع «عنصري» تحت دعاوى «تهميش» مناطقهم. وهي مناطق مهمشة بطبيعتها وتكوينها وسلوك أهلها. فجاءت «غضبة الرئيس» وهي غضبة «مضرية» من تكوينه العشائري ذاته، فلم يحاسب قرنق على ما لم يتم الاتفاق عليه من وقف لإطلاق النار، وإنما حاسبه على نواياه ومواقفه بعدما أبداه الرئيس وألزم به نفسه، فاستدعى الوفد المفاوض في مشاكوس، وأعلن «التعبئة العسكرية» وأعاد تركيز القيادة في مدينة «جوبة» عاصمة الجنوب. وأوضح أن أية جولة «قادمة» يجب أن تتضمن وقفا لإطلاق النار.

ومتنفذو النظام

ولم يكن المتنفذون في حزب النظام أقل حرصا من قرنق على إجهاض دور الرئيس، ففي لقائه يوم الخميس 31 أكتوبر 2002، كاشف النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه جمعا من القيادات الصحافية والإعلامية بكثير من «الأسئلة» التي ذكر أنه يترك إجابتها الى «الرأي العام السوداني». هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها مسئول أسئلة على الرأي العام، ويترك له أمر الإجابة عليها! غير أن الحقيقة الدافعة الى هذا الموقف التساؤلي و«الإيكالي» لإجابة الغير من الرأي العام، إنما تتبدى في طبيعة الأسئلة وتوقيتها وأكثر من ذلك في صياغتها. فصياغة الأسئلة تنم عن أن الأمور تتجه إلى نقيض مخططات الصقور ومخالبها وباتجاه هديل الحمائم. فالأسئلة المطروحة والمتروكة إجابتها الى الرأي العام لأول مرة هي كالآتي نصا:

«هل المطلوب أن تعطي الحكومة مفتاح الجنوب لجون قرنق؟!» «ما الوزن الكلي للجنوب في تقسيم السلطة ... هل 40، وماذا بشأن أقاليم السودان الأخرى؟!» «بشأن قسمة الثروة هناك محاولة لأن تكون هناك (

العدد 344 - الجمعة 15 أغسطس 2003م الموافق 16 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً