بعد أكثر من مئة يوم على احتلال العراق نجحت الولايات المتحدة في استثمار وجودها العسكري دوليا قبل أن تنجح في توظيفه سياسيا في بلاد الرافدين نفسها.
فبعد أن نجحت واشنطن في استصدار قرار عن مجلس الأمن «يأخذ علما» بالاحتلال نجحت ثانية في إصدار قرار آخر «يرحب» بمجلس الحكم الانتقالي. القرار الأول تنقصه الموافقة على الاحتلال أو على الأقل تأييد ما أسفرت عنه الحرب على العراق. والثاني ينقصه الاعتراف بشرعية مجلس الحكم الانتقالي إلا أن ملاحظة وجود تطور في الوضع العراقي يعني أن مجلس الأمن بات على قاب قوسين من تشريع الاحتلال.
القراران الأول والثاني يصبان في النهاية في مصلحة تعزيز شرعية الاحتلال دوليا على رغم عدم وجود بنود واضحة تشير إلى مثل هذا التوجه. الولايات طلبت من مجلس الأمن أكثر من «أخذ العلم» و«الترحيب» ولكنها تعتبر أن ما حصلت عليه، وبهذه السرعة القياسية، خطوات جيدة وهي كافية الآن لتثبيت وجودها السياسي بعد نجاحها العسكري في احتلال دولة عربية مستقلة، وعلى الضد من العالم كله.
لا شك في أن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى مجلس الأمن لتغطية تصرفاتها وحروبها، بل ربما مجلس الأمن بحاجة إلى الولايات المتحدة ليحافظ على ما تبقى من «هيبة» دولية، إلا أن ذلك لا يعني أن واشنطن استغنت عن الأمم المتحدة وباتت خارج سياقها. البيت الأبيض يريد بقاء الأمم المتحدة منظومة علاقات دولية واهية لا قدرة ولا حيلة لها ولا تستطيع التحرك والفعل من دون دفع ودعم من الولايات المتحدة أولا ومجموع الدول الكبرى ثانيا.
أميركا لا تريد الأمم المتحدة هيئة دولية قوية تفرض شروطها وقراراتها عليها. كذلك لا تريد اختفاء الأمم المتحدة وتهميش دور مجلس الأمن إلى حد الاضمحلال والغياب الكامل عن المساحة السياسية الدولية.
أميركا تريد الأمم المتحدة كما هي الآن على حالها أو كما أوصلتها واشنطن إلى مثل هذه الحال... مجرد شاهد على تحولات لا صلة لها بها ولكنها في النهاية هي المرجع الذي تؤخذ منه القرارات عند الحاجة وتستبعد عندما تتعارض مصالح الولايات المتحدة مع ذاك المرجع.
أميركا تريد من الأمم المتحدة أن تكون هيئة دولية ضعيفة لا تصدر عنها القرارات وإنما تستقبل القرارات التي تمليها عليها الولايات المتحدة أولا ومجموع الدول الكبرى ثانيا. فأميركا تريد أن تعادل حصتها نصف قوة الأمم المتحدة ويتوزع النصف الثاني على الدول الكبرى وعشرات الدول الأخرى في العالم.
هذا هو منطق القرارات التي صدرت أخيرا عن مجلس الأمن وتحديدا بعد فوز أميركا العسكري في حربها على العراق؛ فهي قرارات مناصفة: النصف الأول للولايات المتحدة وهو يميل نحو تشريع الاحتلال وتشريع نتائجه السياسية. والنصف الثاني للدول الكبرى والعالم وهو يميل إلى الامتناع عن تصديق الاحتلال وتأييده وتأكيده.
الولايات المتحدة تعتبر نفسها - في الحدود الممكنة لسياستها الهجومية في «الشرق الأوسط» - انتصرت دوليا وانتزعت ما يشبه الاعتراف الضمني بوجودها واستمرار الاحتلال إلى الموعد الذي تريده هي لا مجلس الأمن.
وهذا الانتصار الدولي، حتى لو كان يتضمن بعض الوجوه السلبية، تعتبره واشنطن خطوة كافية لتشريع الاحتلال لاحقا وتثبيت وجودها من خلال هيئة حكم محلية معينة من قبلها وليست منتخبة من قبل الشعب العراقي.
والأخطر من هذا الجانب العراقي هو تداعيات القرار الدولي على المنظومة العربية ومواقف جامعة الدول العربية من الأمر. فالدول العربية حتى الآن رفضت الاحتلال وطالبت أميركا بسحب قواتها ورفضت الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي وطالبت باجراء انتخابات تنتج حكومة عراقية وطنية منتخبة. والمسألة الآن هي: إلى أي حد تستطيع الدول العربية مجتمعة الوقوف والتماسك والاستمرار في مواقفها المبدئية؟ إنها مسألة صعبة بعد أن نجحت أميركا في انتزاع مجموعة نقاط لمصلحتها من المنظومة الدولية.
والسؤال: هل تستطيع الدول العربية أن تثبِّت مواقفها في قرارات واضحة تمنع الولايات المتحدة من الاستقواء بفوزها العسكري ونجاحاتها الدولية لإعادة صوغ هجومها على المنطقة؟
المسألة صعبة أيضا على الولايات المتحدة. ومصدر الصعوبة يكمن في أن واشنطن أقنعت دول مجلس الأمن بصواب خطواتها في العراق بينما الشعب العراقي، ومن خلال تصاعد المقاومة يوميا، يؤكد للعالم أنه يرفض التطبيع مع الاحتلال. فأميركا بعد أكثر من مئة يوم نجحت في استثمار وجودها العسكري دوليا ولكنها فشلت حتى الآن في توظيفه سياسيا في العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 344 - الجمعة 15 أغسطس 2003م الموافق 16 جمادى الآخرة 1424هـ